شكلت أنشطة البستاني، الشدياق، وخير الدين التونسي ظاهرة جديدة في الحياة الثقافية في لحظة كانت السلطنة تمر في فترة انتقالية انتهت إلى خيبة سياسية استغلتها الدول الأوروبية لتوجيه ضربات قاتلة أدت إلى تقويضها من الداخل والخارج.
لم تكن أنشطة البستاني والشدياق والتونسي متوافقة ولكنها اتفقت على عناوين مشتركة تتصل بضرورة التحديث والتطوير والإصلاح والمساواة وحرية المرأة والعدالة والدستور والحرية وغيرها من شعارات اعتقدت «النخبة» أنها كافية لتحقيق التقدم والتمدن واكتساب المعرفة الضرورية للنهوض بالأمة.
شكل هذا النزوع النظري مشكلة للنهضة في أجيالها اللاحقة. فالنخبة توهمت أن التقدم التاريخي يقوم على آليات فكرية (أيديولوجية) وبالتالي فإن الأمة تحتاج إلى تقليد الغرب ومحاكاته وفي حال تم اتخاذ مثل هذه الخطوة يمكنها الانتقال بسرعة من مكان إلى آخر. لذلك اتجهت النخبة إلى ابتكار آليات اعتمدت سياسة النقل والترجمة والاتباع ظنا منها أن التوصل إلى هذا النوع من المجاراة في الشكل والمظهر يكفي لإحداث تلك النقلة المطلوبة على المستويين السياسي والاجتماعي.
انطلقت النخبة من نوايا طيبة طغى عليها الجانب الأيديولوجي (النظري) ولم تلحظ أهمية العمران ودوره الخاص في تشكيل قواعد النهضة الأوروبية. فأوروبا لم تخترع الفكر من فراغ اجتماعي وتصورات مجردة عن الواقع وإنما تأسس وعيها الذي صاغته النخبة بناء على تحولات تاريخية وجغرافية وبنيوية أعادت تركيب الحياة العامة ضمن تدرج زمني وصولا إلى بلورة معرفة معاصرة متطابقة إلى حد ما مع الاجتماع البشرى وواقعه وحاجاته ومتطلباته.
المعرفة الأوروبية كانت لها وظيفة سياسية واجتماعية ولعبت دورا في تشجيع الدولة على اعتماد خطط وتنظيمات متجانسة إلى حدود نسبية مع تطور العمران البشري. بينما المعرفة العربية (الإسلامية) وخصوصا في بداياتها الأولى كانت فكرية ونظرية وتفتقد إلى بناء عمراني يحدد وظيفتها الاجتماعية والسياسية. ولذلك فشلت النخبة في لعب ذاك الدور المطلوب عمليا وخصوصا أن علاقتها مع السلطنة أو الدويلات الخارجة عنها كانت ملتبسة إذ تشهد لحظات تفاهم ثم تعقبها لحظات سلبية ومتعارضة. وشكل هذا الالتباس نقطة ضعف في وعي نخبة انشطرت سياسيا بين تيار مستقل يعمل خارج المؤسسات وتيار منضبط ضمن أطر الدولة التنظيمية. كذلك تشرذم وعي النخبة أهليا وأيديولوجيا بين عمل خضع لأهواء «الملل والنحل» وبين وعي مجرد تعامل مع الفكر كنظريات مستقلة عن التاريخ وتطور محطاته الزمنية.
يشكل الثلاثي البستاني والشدياق والتونسي الذي استمر ينشط على أكثر من جبهة ثقافية بعد رحيل الطهطاوي ظاهرة خاصة تتجسد فيها اتجاهات متوافقة في المفاهيم العامة ومتوازية في مواقعها وأدوارها. فالبستاني تركزت جهوده في حقول التربية والتعليم وإصدار المطبوعات (صحف) والقواميس اللغوية والموسوعات، بينما تركزت جهود الشدياق على الترجمة والنقل وكتابة الرحلات والوصف والمقارنة وصولا إلى تأسيس صحيفة شاملة دأبت على جمع شمل المثقفين العرب في زمانه.
تجربة خير الدين في تونس تختلف في ظروفها وبيئتها ومجال عملها. فالتونسي رجل دولة ويشبه الطهطاوي في طرازه النخبوي. لذلك تركز نشاطه في دائرة الدولة وما تتطلبه من خطط وتصورات وبرامج تساعد المجتمع على التقدم والخروج من الظلمة والاستبداد.
هذا الاختلاف لا يعطل إمكانات القياس والمقارنة وتحديد نقاط التشابه. فالثلاثة عملوا في السياسية انطلاقا من قناعات فكرية (أيديولوجية) سابقة لوقتها. وبسبب هذه الفجوة بين الفكرة والواقع تحولت تلك القناعات إلى نوع من النظريات العامة التي تفتقر إلى الاجتماع البشري (العمران) الذي هو الطرف الوحيد القادر على استخدامها وإعادة توظيفها. ولأن تلك الأفكار وضعت من دون آليات تنظيمية تحولت مع الأيام إلى مجرد أوراق توضع على الرف وكتب توزع من دون فائدة عملية منها.
هذا التفاوت بين النظرية والتطبيق لا يعني أن أنشطة الثلاثي كانت من دون قيمة تاريخية. فهي على رغم العقبات الاجتماعية التي تعطل عليها إمكانات تحولها إلى برامج عملية ساهمت في تنوير بعض الزوايا وأعطت لشريحة من المثقفين العرب معلومات عامة كان لابد من الاطلاع عليها لفهم ما يجري في أوروبا. وفي هذا الجانب التنويري لعب البستاني دوره الخاص سواء على صعيد التدريس وتخريج الطلبة من المعاهد أو على صعيد الترجمة والاقتباس وتحديث اللغة من خلال المعاجم أو على صعيد نقل المنتوجات الفكرية الأوروبية وتنظيمها في سياق موسوعي يعتبر الأول من نوعه بعد انقطاع طويل عن تجارب الفقهاء والعلماء في الزمن الماضي.
الآثار التي تركها البستاني كثيرة وغنية ومتنوعة في حقولها النظرية والعملية. فعمليا أسس «المدرسة الوطنية» في العام 1863 وكان لها أثرها في تعليم «المبادئ الوطنية» في زمن كان الفكر الديني هو السائد في مختلف المعاهد. وأيضا أسس البستاني ثلاث صحف وهي «نفير سورية» في العام 1860 ولعبت دور المناهض للفتنة الطائفية بين الدروز والموارنة، و»الجنان» و»الجنة» في 1870.
ترافقت أنشطة البستاني العملية مع جهوده النظرية التي تناولت حقول الاجتماع والرياضيات والنحو واللغة والأدب. وساهم في إنتاج الكثير من الكتب والمعاجم (محيط المحيط، وقطر المحيط). إلا أن عمله الأهم كان تأسيسه لدائرة «معارف» طمحت في إصدار موسوعة معاصرة تنقل إلى القارئ العربي معلومات مرتبة وفق تصنيف أوروبي تعطي فكرة موجزة عن حداثة تمر بها القارة الأوروبية وعن تاريخ مرت به الأمة في محطات غابرة.
بدأ البستاني مشروعه الموسوعي بالتعاون مع ابنه سليم في العام 1875 حين شكل «دائرة المعارف» وبدأ يعمل على إصدار موسوعته بدعم وتمويل من الخديوي إسماعيل في مصر. ولولا تلك المساندة لكان من الصعب أن يستمر بنشاطه المضني الذي يحتاج إلى «فريق عمل» متفرغ. ونجح البستاني في إنجاز خطواته اعتمادا على جهده ومساعدة ابنه. وهكذا صدر الجزء الأول من الموسوعة في العام 1876 وبدأت الأجزاء بالصدور من دون توقف إلى أن وصل إلى الجزء السادس إذ توفي في العام 1883 تاركا مهمة إكمالها لابنه سليم ونسيبه سليمان البستاني. وتواصل بفضلهما صدور الموسوعة فظهر الجزء السابع والثامن بإشراف سليم ثم التاسع والعاشر لتتوقف عند الجزء الحادي عشر بسبب وفاة سليمان.
تعتبر موسوعة البساتنة (11 مجلدا) التي لم تكتمل في عهود الثلاثة خطوة مهمة في إطار محاولة الإطلالة على علوم الغرب وإنجازاته العملية والطبية والهندسية وما حققه من اكتشافات ومعارف ومفاهيم معاصرة ومصطلحات جديدة لها علاقة بأفكار الثورة الفرنسية وبعض الفلسفات الأوروبية التي تطرقت للحرية والمساواة والدستور والليبرالية وغيرها من مفردات سحرت آنذاك عقول النخبة ولكنها لم تكن كافية لتصحيح الخلل والاعوجاج. فهي كانت مجرد أفكار مترجمة ومنقولة من لغات أجنبية إلى العربية من دون أن تمر في فترة اختبار أو تجربة بسبب كونها مجموعة اجتهادات تتصل بحياة عمرانية مختلفة وظروف بيئية لا تنسجم مع ثقافة المنطقة والآليات التي تتحكم بقانون التطور.
لاشك في أن موسوعة البستاني شكلت نقلة نوعية على مستوى تعامل «النخبة» مع المعارف الأوروبية المعاصرة. فهي ساهمت في نقل صورة مختصرة عن تلك الاكتشافات المتنوعة في مختلف الحقول ولكنها لعبت دورا من دون ادراك أو تخطيط في «تنصيص المعرفة» أي وضعها في دائرة تعريفات محددة وشبه نهائية.
مسألة تنصيص المعرفة تحولت إلى مشكلة لاحقا لأنها اختزلت تطور العلوم والعمران في فقرات بسيطة تعطي فكرة جاهزة عن معطيات التقدم والتمدن ولكنها لا تؤرخ للكيفيات والمواد التي تراكمت زمنيا للوصول إلى الدرجة العمرانية والمدنية التي وصلت إليها أوروبا.
إسقاط الزمن (التطور التاريخي) من عملية التقدم العمراني/ المعرفي لعب دوره لاحقا في اعتماد النخبة العربية المنجزات الأوروبية نصوصا جاهزة (قوالب فكرية) يمكن نقلها أو ترجمتها، وثم الاستناد إليها واسطة لتطور مزعوم وثقافة منحولة. المشكلة لم تكن عند البستاني. فهي أصلا من نتاج التفاوت التاريخي الذي صنع هذه الأوهام ولم ينجح في تطبيقها.
هذا التوهم الايديولوجي كان أقرب إلى تجويف المعرفة وتفريغها من تطور العمران. وأدى هذا النوع من التوهمات إلى تضخيم الجانب الايديولوجي وتغليبه على الأسس التاريخية. وشكل هذا الضعف في وعي تاريخ التقدم، ووسائل تحقيق التمدن، والأسباب التي ساهمت في إطلاق تلك الإنجازات الأوروبية نقطة خلل في جهود «النخبة العربية» التي كررت أنشطة النقل والنسخ والترجمة (تنصيص المعرفة) على أكثر من صعيد الأمر الذي أحدث لاحقا تلك الفجوة الزمنية بين طليعة الأمة المثقفة والجماهير المستضعفة.
ظاهرة البستاني لم تكن فريدة عصرها وإنما هي مجرد نموذج عن أزمة نخبة عانت القلق واجتهدت لتجاوز محنة سياسية/ تاريخية من دون أن تلقى النجاح المطلوب.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1624 - الخميس 15 فبراير 2007م الموافق 27 محرم 1428هـ