الحشد المليوني الذي تجمع في ساحة الشهداء في بيروت بمناسبة الذكرى الثانية لجريمة الاغتيال التي نفذت ضد رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري يؤكد من جديد أن الجهة الفاعلة أخطأت في حساباتها حين اعتقدت أن الحادث سيمر من دون تداعيات سياسية ولن تكون له امتداداته الزمنية.
مضى الآن أكثر من سنتين على حادث الاغتيال ولايزال لبنان يعيش لحظات تلك الجريمة السياسية. وهذا يؤكد مرة ثانية على أن الطرف الفاعل لا يقرأ جيدا وهو يراهن حتى الآن على غطاء دولي ينقذه من تلك الورطة.
لاشك أن حشد أمس وجه رسالة قوية تشير إلى وجود نوع من التوازن السلبي الأهلي في لبنان. وهذا النوع من التوازن القلق يفتح الباب عادة على احتمالين: الأول، اعتراف كل فريق بقوة الآخر والتقدم نحو تسوية تاريخية تعيد إنتاج دولة عادلة وقادرة على توحيد البلد وضبط الوحدة في سياق توافقي يمنع الانزلاق نحو الفتنة. والثاني، تمسّك كل فريق بموقفه ورفض الاقرار بقوة الآخر وبالتالي التقدم نحو مواجهة دموية تنتهي بهزيمة كل القوى وربما تشجيع القوى الكبرى على اتخاذ خطوة التدويل النهائي والشامل.
لبنان بعد مشهد أمس بات على مفترق طرق. فكل فريق أظهر قوته الميدانية وطرح أفكاره في الساحات وبالتالي لم يعد هناك من مخارج كثيرة. فالجهات المعنية أبدت تمسكها بما سبق أن كررته في مناسبات مختلفة. والنقاط التي وردت في خطابات أمس دارت على نفسها وهي لا تختلف كثيرا عن النقاط التي ترد دائما في خطابات قوى «8 آذار». النقاط متشابهة والاختلاف على الجدول ونظام الاولويات.
قوى «14 آذار» تضع «المحكمة ذات الطابع الدولي» في المقدمة وترى أنها تشكل المدخل الصحيح أو «المعبر الوحيد» لبحث كل المشكلات من ناحية تشكيل حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها كل الكتل النيابية إلى ناحية التفاهم على قانون انتخابي جديد وانتخابات مبكرة للبرلمان أو الرئاسة.
قوى «8 آذار» تضع حكومة الوحدة الوطنية في المقدمة وترى أنها تشكل ذاك المدخل المطلوب تصحيحه للعبور نحو إقرار قانون «المحكمة» الدولية وإجراء انتخابات مبكرة على قاعدة قانون جديد يمهد الطريق لعقد دورة تنتخب الرئيس البديل.
النقاط متشابهة والاختلاف لايزال على جدول الاولويات. وهذا يعني أن القوى مطالبة بالعمل على ابتكار آليات لتوحيد الاولويات أو إعادة ترتيبها وفق جدول يسمح بترميم الثقة ومد الجسور المقطوعة. ولكن من يراقب المشهد من بعيد يرى أن هناك صعوبة في التوصل إلى صيغة توفيقية بين الطرفين من دون تدخل عربي وإقليمي يحظى برعاية دولية تضمن الحقوق وتحفظ توازن المصالح. فهذا البلد جزء من محيط عربي - إقليمي وهو نتاج معادلة مركبة من الداخل والخارج. وإذا كان الخارج في حال تخاصم فإن الداخل سيبقى عرضة للتقلبات والأهواء والتلاعب.
الإطار الخارجي للمشكلة اللبنانية يصعب إسقاطه من المعادلة أو الحل. لذلك يتهم كل فريق في الداخل الفريق الآخر بأنه ينفذ سياسة غير لبنانية. والاتهامات المتبادلة هي أوضح دليل على أن الجانب الخارجي من الأزمة يلعب دوره السلبي في تعطيل إمكانات الحل ومنع الفرقاء من التوصل حتى إلى صيغة تسوية مؤقتة.
هناك فريق يرفض «المحكمة ذات الطابع الدولي» خوفا من التسييس أو استخدامها لأهداف أخرى ولذلك يضغط على تأجيل بحثها كسبا للوقت أو لتمييع القضايا بفعل مرور الزمن. وهناك فريق يؤكد على أهمية «المحكمة» لأنها تمنع آلة القتل من الاستمرار في تنفيذ جرائمها ولذلك يضغط للاسراع في تشكيلها خوفا من ضياع الوقت وسقوط المزيد من الضحايا.
كل جهة تتمسك بموقفها وتراه المدخل الصحيح للعبور بالأزمة من حال التقابل الأهلي إلى أحد الموقعين المتعارضين: أما السلم الأهلي أو الاقتتال الأهلي. ويشكل التمسك بالموقف نقطة توازن لكل جهة. فالجهة التي تريد التأجيل تنتظر متغيرات دولية وإقليمية تعتقد أنها ستكون لمصلحتها. والجهة التي ترفض التأجيل تتوقع حصول متغيرات تعتقد أنها لن تكون لمصلحتها دوليا وإقليميا. وبغض النظر عن صحة التوقعات والاحتمالات فإن مجرد انتظار المتغيرات السلبية والايجابية يؤكد على تلك الابعاد الإقليمية والدولية للأزمة اللبنانية.
مراهنات رمادية
هذه المراهنات التي يعتمدها كل فريق تضع لبنان في خط رمادي غير واضح المعالم. والسبب أن المتغيرات الإقليمية والدولية غير واضحة المعالم في خطوطها وألوانها. مثلا الملف النووي الإيراني لايزال في طور التأزم ويحتاج إلى وقت لمعرفة الاتجاهات التي يسير نحوها. فهل توقف طهران التخصيب وتبدأ مفاوضات مع القوى الدولية للتفاهم على مخرج كما حصل مع الملف النووي الكوري؟ حتى الآن لا يوجد ذلك الجواب المؤكد والنهائي بشأن المسألة. فالأمور مفتوحة على أكثر من صعيد، فهناك احتمال ان تتفاهم إيران مع روسيا والصين بدعم فرنسي وهناك إشارات مخالفة لمثل هذا الاحتمال.
أيضا الملف العراقي غير واضح المعالم. فهل تستكمل واشنطن المغامرة وتستمر إدارتها في معاندة الوقائع الجارية أم تعيد النظر وتبدأ بمفاوضات مع دول الجوار لترتيب أمورها وتنظيم الانسحاب أو تجميع القوات؟ حتى الآن يسيطر الغموض على السياسة الأميركية والاحتمالات مفتوحة على خطين: الأول التصعيد والاستمرار في نهج التقويض. والثاني الاعتراف بالأمر الواقع والبدء في صوغ حلول تعيد النظر بالاستراتيجية الأميركية. ومن يعتقد أنه يملك الجواب النهائي يحتاج إلى وقفة لإعادة قراءة الحسابات ودراستها من الجوانب كلها.
هناك الجانب الدولي الذي أخذ يشهد بداية ارتسام خطوط «الحرب الباردة الثانية». فهل تظهر الحدود النهائية لهذه «الحرب» في فترة سريعة أم تحتاج إلى سنوات لإعادة ترسيم غاياتها وأهدافها؟ الجواب حتى الآن غير واضح على رغم أن هناك بدايات جديدة لعلاقات دولية تختلف نسبيا عن قواعد اللعبة الأميركية التي تحكمت بقرارات الحروب على أفغانستان في 2001 والعراق في 2003 ولبنان في 2006. وهناك أيضا الجانب الإقليمي الذي أخذ يؤشر على نمو قوى محلية تلعب دورها في رسم خريطة جديدة لصورة المنطقة. فإيران مثلا تلعب دورها الخاص في أكثر من ساحة وملف. كذلك السعودية بدأت تلعب دورها المستقل في صوغ توجهات إقليمية تتناسب أو تتكيف مع المتغيرات الدولية. وهذا النمو المميز لمواقع القوى الإقليمية سيترك آثاره على المحيط العربي ودول الجوار ولذلك لا يمكن إسقاطه من المعادلة المحلية في العراق أو لبنان أو فلسطين.
هناك إذا ما يشبه التوازن السلبي في المعادلة الدولية التي أخذت تشق طريقها من دون وضوح لمعالمها النهائية. كذلك هناك ما يشبه التوازن السلبي في المعادلة الإقليمية وما تعكسه من ظلال عربية وأهلية في العراق وجواره، ولبنان وجواره، وفلسطين وجوارها.
هذا التوازن السلبي في موازين القوى الدولية والإقليمية والعربية يفسر إلى حد ما ذاك التوازن السلبي الذي ارتسمت معالمه الداخلية على خطوط التماس الأهلية اللبنانية. فالقوى التي تتنازع الساحات في بيروت أظهرت ما يشبه التوازن في المعادلة الداخلية. فكل فريق له منطقه وشارعه. وبما أن آليات الشوارع في لبنان تتحكم في قوانينها الطوائف والمناطق والمذاهب فإن القوى المتعادلة مطالبة بمراجعة مواقفها وقراءة الحسابات بشكل دقيق حتى لا تكرر ذاك الخطأ الذي ارتكبه الطرف الفاعل والمنفذ لجريمة اغتيال الحريري.
التعادل في لبنان خطير وحساس لأنه يمكن في لحظة ما أن ينقلب إلى اقتتال أهلي، وأيضا يمكنه في لحظة أخرى أن يتحول إلى سياسة تريد بناء تسوية متوازنة على قاعدة السلم الأهلي.
المشهد المليوني الذي ظهر أمس في ساحة الشهداء بمناسبة الذكرى الثانية لاغتيال الحريري يؤكد من جديد أن من فعل الجريمة أخطأ في القراءة والحسابات، لأن تداعيات الحادث لاتزال ممتدة زمنيا.
يبقى السؤال: هل يكرر اللبنانيون الخطأ ويستمرون في سياسة المعاندة أم ستظهر في الأفق خطوط مراجعة لمجمل تلك النقاط ويعاد ترتيبها وفق جدول أولويات يعطي لكل فريق حقه؟ الأيام والأسابيع المقبلة سترسم بالألوان تلك الخيوط الغامضة والرمادية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1623 - الأربعاء 14 فبراير 2007م الموافق 26 محرم 1428هـ