العدد 1623 - الأربعاء 14 فبراير 2007م الموافق 26 محرم 1428هـ

عيدي أمين ونموذج السبعينات في إفريقيا

قصة «آخر ملوك سكوتلندا» في يوغندا

فيلم «The Last King of Scotland» الذي يعرض حاليا في سينما الدانة لا يتحدث عن سكوتلندا وإنما عن دولة إفريقية. فالعنوان مأخوذ من كتاب يتحدث عن قصة طبيب شاب من سكوتلندا تخرج من الجامعة وأراد الهرب من بلاده وأهله والذهاب بعيدا إلى بلد مجهول.

الحكاية تبدأ من المصادفة. فالشاب حين قرر الهرب من منزل أهله وضع الكرة الأرضية أمامه وأدارها ووضع إصبعه وجاءت المصادفة أن يكون في يوغندا.

حدث ذلك في العام 1970. آنذاك وقع انقلاب عسكري بقيادة عيدي أمين أطاح بسلطة الرئيس السابق (الانقلابي أيضا) موبوتو. وتوجه الطبيب الشاب إلى يوغندا بقصد العمل في المجال الصحي من خلال منظمة إغاثة. فهو لا يفقه سياسة ولا يعرف شيئا عن يوغندا وتاريخها وعاداتها. كل ما يهمه اكتساب تجربة في منطقة نائية بعيدا عن رقابة أهله ونصائح والده.

وصل الطبيب الشاب إلى ذاك البلد الإفريقي في لحظة انقلابية كان خلالها عيدي أمين في طور تثبيت نظام حكمه الجديد. وبدأ عمله في مركز الإغاثة في الريف بعيدا عن المدينة وحياتها إلى أن وقعت مصادفة ثانية.

المصادفة الثانية كانت زيارة أمين للمنطقة لشرح برنامجه مباشرة للناس. وحضر الطبيب الشاب المهرجان الشعبي مع موظفة بريطانية تعمل في الإغاثة الصحية التابعة للمنظمة. واستمع هناك إلى خطاب الرئيس الذي وعد الناس ببناء الطرقات وفتح المدارس والمستشفيات وتأمين فرص العمل وتحسين المعيشة ومحاربة الفقر والجهل ومكافحة الأمية.

أعجب الطبيب السكوتلندي بالخطاب وصدق كل ما ورد فيه. وخرج بانطباع عن لطف الرئيس وحبه للناس وثقته بهم. إلا أن الموظفة صاحبة تجربة ومضت عليها فترة طويلة في يوغندا وعاصرت بدايات فترة موبوتو نبهت الشاب إلى عدم تصديق كلمة. وقالت له إنها سمعت من موبوتو الكلام نفسه والوعود نفسها وانتهى أمر الأموال في حساب مصرفي في سويسرا. وتوقعت أن يحصل الأمر نفسه مع أمين بعد فترة لا تزيد على السنتين.

الطبيب الشاب لا يملك تجربة سابقة وليس على دراية بأخبار الدكتاتوريين في إفريقيا الذين يصلون السلطة عن طريق الانقلاب وبدعم من أجهزة المخابرات وتغطية من الشركات التي تنهب ثروات القارة. فهو جديد ولا يهتم بهذه القصص ويتأثر مباشرة بالمشهد ولا يكترث بالتفصيلات ولا يبحث عن الأسرار والخفايا. ومثل هذا النوع من البسطاء يكون عادة سهلا ويمكن ابتلاعه. وهذا بالضبط ما وقع فيه الطبيب حين حصلت المصادفة الثالثة. فبعد انتهاء الحفل الخطابي وما تلاه من مهرجان رقص وغناء حصل لسيارة الرئيس حادث اصطدام في طريق عودته من الريف، الأمر الذي دفع فرقة المرافقة إلى استدعاء الطبيب لمعالجة الإصابة الطفيفة. ومن هنا بدأت العلاقة. عرض أمين على الطبيب العمل معه في القصر الجمهوري في العاصمة كامبالا. رفض الشاب العرض ولكنه وافق حين عينه مستشارا يعتمد عليه في وضع خطة تطوير القطاع الصحي وإنشاء المستشفيات وغيرها.

وهكذا انتقل من مركز الإغاثة في الريف إلى المستشفى المركزي في العاصمة وبدأ عمله بالقرب من الرئيس. وأخذت الأيام تمرّ وكان الشاب يعيش في غيبوبة عن السياسة ولا يعرف ماذا يحصل في المناطق ومع الناس. كذلك انخدع الطبيب بالمظاهر والكلام العام وحسن تعامل الرئيس معه ولم يعرف أن هناك شخصية قاسية ومستبدة أخرى لا تعرف الشفقة أو الرحمة. وبسبب انخداع الشاب بالرئيس وإعجابه به كشف له بعض أسراره وكيف كان يعمل خادما في قاعدة بريطانية، ثم كيف ارتقى في رتب المؤسسة العسكرية بدعم من المخابرات وصولا إلى الانقلاب والقصر. ولكنه الآن يكره بريطانيا وسياستها وهي بدأت تحاربه وتتحامل عليه.

حتى الآن كان الطبيب الشاب يعيش لحظات تأمل ويفكر في خطط تطوير القطاع الصحي. والرئيس كان يغدق عليه ويعطيه كل ما يريده من سيارة ومنزل وتأمين حاجات ومتطلبات يطمح لنيلها كل شاب في مقتبل العمر. واستمرت العلاقة الملتبسة إلى درجة كان الطبيب يخاف على أمين من معارضيه وتلك الدسائس التي تخطط لها أجهزة المخابرات البريطانية. فالمخابرات اتصلت به وطلبت التعاون معه وحاولت معرفة أسباب علاقته بالرئيس وكيف جاءت ومن هو الطرف الذي نظمها. الطبيب كان يضحك ويستغرب الأسئلة ومعنى علامات الاستفهام والتعجب. والمخابرات كانت لا تصدق أن علاقته المميزة بالرئيس محض مصادفة ولم يخطط لها.

القصة طويلة نسبيا ولكنها بدأت تشارف على نهايتها حين أخذت تصل الطبيب تلك الأخبار المرعبة عن مطاردة الأجهزة للمعارضة وقتلها جماعات سياسية بأساليب اجتثاثية كذلك أخذت الأخبار تتضخم عن وجود مذابح جماعية ومجازر ضد الفقراء في الريف والأحياء. وزادت الصعوبة حين قرر أمين طرد الآسيويين (البريطانيين) من البلاد من دون رحمة أو شفقة على رغم أن اقتصاد يوغندا يعتمد على هؤلاء كونهم من الطبقات المهنية والحرفية. وهكذا دخلت قصة الطبيب السكوتلندي فصلها الأخير في التعاون مع أمين. والفصل الأخير كان عنيفا حين تأزمت العلاقة وانكشفت تلك الشخصية الفجة. فأمين رفض استقالة الطبيب كذلك رفض مغادرته البلاد وصادر جواز سفره حتى لا يعود إلى سكوتلندا. وبدأت العلاقة تتفكك فالطبيب تعرض للتعذيب حين فشلت محاولته قتل أمين بالدواء السام. ولكن المصادفة تلعب دورها للمرة الرابعة حين تقوم مجموعة فلسطينية بخطف طائرة إسرائيلية إلى مطار عنتيبي في يوغندا. وهنا يستفيد الشاب من الفوضى ويهرب مع الركاب بمساعدة طبيب آسيوي في المستشفى. القصة تتحدث عن تجربة وقعت مصادفة لشاب جاء من أقصى الشمال الأوروبي إلى وسط إفريقيا في فترة السبعينات. الفيلم يتحدث عن أمين، ولكنه يأخذه نموذجا للكلام عن واقع سياسي مرّ تعيشه القارة الإفريقية منذ تلك الفترة. فالطبيب الذي كتب قصته يكشف دور المخابرات الأجنبية وموقع الشركات ووظيفتها في النهب والسرقة وتنظيم الانقلابات وإنهاك هذه البلدان الحديثة العهد بالاستقلال بصراعات داخلية تزعزع الاستقرار وتثير الفتن. فأمين هو مثال على عشرات الدكتاتوريين الذين عاثوا فسادا في إفريقيا. ويوغندا الجميلة والوديعة والثرية هي واحدة من عشرات الدول الإفريقية التي تعرضت للغزو والسرقة من قبل هيئات ومؤسسات وأجهزة كلها تعمل لخدمة أغراض أخرى لا صلة لها بحياة المواطن وأمنه.

«الملك الأخير في سكوتلندا» هو لقب أطلقه عيدي أمين على الطبيب الشاب،ولكن المقصود منه هو العكس. فأمين قد يكون الملك الأخير في يوغندا. فهو سيتعرض لانقلاب يطيح به بعد غزو تنزانيا لأرضه في العام 1979 وسيضطر إلى مغادرة بلاده هربا إلى أن يأخذ اللجوء السياسي ويعيش في السعودية إلى أن يموت في العام 2003 بعيدا عن يوغندا التي ستعصف بها الأمراض والحروب.

العدد 1623 - الأربعاء 14 فبراير 2007م الموافق 26 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً