للمرة الأولى أكتب لصفحة «سينما»، لأن الفيلم الذي شاهدته كان فيلما دمويا بمعنى الكلمة! فالفيلم الذي تزيد مدة عرضه على الساعتين، تسيطر على غالبية لقطاته مظاهر العنف والقتل والدماء. والساعة الأخيرة كلها مطاردةٌ وقتلٌ باستخدام السهام والخناجر المدبّبة لبقر البطون، والسيوف لقطع الرؤوس، وستبقى طويلا في ذاكرة المشاهد مناظر الرؤوس المقطوعة وهي تتدحرج من فوق سلالم المعابد العالية في إحدى قرى الهنود الحمر من قبائل المايا.
الفيلم يلخص فلسفة المؤرخ ويل ديورانت: «الحضارة العظيمة لا يهزمها عدوٌ من الخارج إلاّ إذا دمّرت نفسها من الداخل». وهي الرؤية التي يحاول المخرج ميل غيبسون تقديمها للمشاهد، مع أنها من الناحية التاريخية قد تغفل دور الغازي الأوروبي الذي اكتسح العالم الجديد بقوة البارود، وحطّم الحضارات التي عاشت في عزلتها من وراء المحيط.
الفيلم يستعرض قصة حياة القبائل الهندية التي كانت تعيش في المكسيك، وتتطاحن في غزوات لا تتوقف، وتبدأ الغارة مع تسلل خيوط الفجر الأولى، حيث يحيط الجنود بنبالهم وسيوفهم وخناجرهم القرية النائمة، فتسبي النساء وتقتل من يقاومها وتأسر الرجال والشباب للعمل في المحاجر وقَطْعِ الأحجار الكبيرة، وتترك الأطفال لوحدهم للمجاعة يحومون حول الجثث المتعفنة لتفتك بهم الأوبئة والأمراض. مناظر يقشعر منها البدن تظل ترافقك إلى نهاية الفيلم.
إذا جاز أن نطلق تسمية «السينما الملحمية» على بعض الأفلام فـ «ابوكاليبتو» سيدخل ضمن هذا التصنيف حتما. وتلعب التقنية الحديثة دورا مبهرا جدا، مع أن لغة الفيلم ليست إحدى اللغات العالمية، وغالبية الممثلين ليسوا محترفين، إنما جاء بهم غيبسون ليدرّبهم على أداء الأدوار فأتقنوا وأبدعوا في الأداء. في بداية الفيلم، يكون الإيقاع بطيئا، ليأخذ المخرج بيدك إلى الغابة لتتعرف على تفاصيل الحياة اليومية البسيطة، وكيف كانت الأجيال تتناقل تجارب الحياة وخبراتها. ثم ينتقل بك إلى الفصل الأول من الحكاية، عندما تمر بأرض القبيلة قبيلةٌ أخرى، فيتوتر الوضع ظنا أنهم جاءوا بسوء نية، ولكن يتبين أنهم هاربون بجلودهم من أمام زحف قبيلة أخرى، ولذلك يرسلون بطير مذبوح دليلا على حسن النية، فيأذنون لهم بعبور أراضيهم.
بعد فترة، يأتي الدور على هذه القبيلة، فتتعرض للغزو والمذبحة، وتساق نساؤها ورجالها أسرى، في رحلة سبي طويلة ومذلة ومؤلمة. وهناك تحتفل القبيلة المنتصرة بعرض الأسرى أمام الجمهور. ويتسلق الملك أعلى المعبد، ليلقي خطابا حماسيا في شعبه: «يا شعب المملكة التي لا تقهر... يا شعب الشمس الذي يذل الأعداء، ويقدّم قرابين البشر ليرضي بدمائها الآلهة التي لا تشبع»!
ويتصاعد الخطاب مع ارتفاع صيحات الجماهير المنتشية بالنصر، ويتم تقديم الأسرى واحدا وراء الآخر، إذ يرفعون على المصطبة مقيّدي الأيدي إلى الخلف، جاحظي العيون، قد ملأهم الرعب، ويتقدّم الجزّار لتوجيه الطعنة القاتلة، ثم يبقر البطن وينتزع القلب، الذي يظل يرتجف قليلا بين يديه والدم يسيل بين أصابعه، بينما يظل الجسد يرتعش لحظات قبل أن تخمد حركته نهائيا.
المصادفة وحدها هي التي تنقذ بطل الفيلم، الذي علمه أبوه «ألا يخاف أبدا»، ففي الوقت الذي يُرفع إلى المصطبة، يحدث كسوف كلي للشمس، ويتحول النهار إلى ليل مظلم، فيتشاءم الملك، ويتقدم الكاهن مفسّرا ما حدث بغضب الآلهة واكتفائها من الدماء، وينصح بتحويلهم إلى ميدان للرماية حيث تمارس عليهم لعبة موت أخرى لا تقل بشاعة ولا رعبا.
وهكذا يساق الأسرى إلى الميدان المفتوح، ليهربوا باتجاه قريتهم، ولكن عليهم أن يواجهوا السهام التي تنهال عليهم كالمطر، فيسقطون تباعا... حتى يجيء دور البطل الذي ينفذ بجلده بعد إصابة متوسطة، ويستطيع أن يفلت باتجاه الغابة، ليتعرّض إلى مطاردة عدد من الرجال لمدة أكثر من نصف ساعة، حتى يفلح في التخلص من مطارديه عدا رجلين، يلحقان به أمام الشاطئ حيث حطت سفن الغزاة الاسبان، فيتجه الرجلان نحو السفينة، فيما يصطحب البطل زوجته الشابة مع طفليه ويدخل الغابة بحثا عن طريق جديد، بعد أن أنقذهم من الجب العميق الذي امتلأ بمياه المطر في غيبته.
ضخٌ هائلٌ لمشاهد القتل والدماء، تخرج منها بانطباعٍ أن المخرج مصاب بمرض التلذّذ بعرض الدماء! ومع أن من عادتي الانسحاب قليلا أمام مشاهد القتل بتذكر أن ما يجري أمامي مجرد تمثيل، إلاّ أنني اضطرت مرتين على الأقل إلى إغماض عيني تجنبا للمناظر المسرفة في البطش.
أخيرا... تجد نفسك أمام تقنية عالية، وتصوير أروع، وإبداع يأخذ اللب، ليبقى فيلم «ابوكاليبتو» فيلما ملحميا بامتياز!
العدد 1623 - الأربعاء 14 فبراير 2007م الموافق 26 محرم 1428هـ