العدد 1621 - الإثنين 12 فبراير 2007م الموافق 24 محرم 1428هـ

الرياض وموسكو... من الانقطاع إلى التقاطع

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

زيارة الرئيس فلاديمير بوتين للرياض تعتبر علامة فارقة في العلاقات الروسية - السعودية. فهي الزيارة الأولى لرئيس دولة كبرى كانت قبل عقدين في حال خصام أيديولوجي مع دولة مسلمة. آنذاك ارتدى الخلاف الطابع العقائدي والسياسي، وازداد حدة بعد اجتياح الاتحاد السوفياتي السابق أفغانستان. وبسبب الاجتياح تشكلت تحالفات دولية وإقليمية وعربية ساهمت في التصدي للاحتلال السوفياتي.

الخلاف السعودي - السوفياتي تشكل آنذاك تحت مظلة دولية تحكمت في إدارة قوانينه «الحرب الباردة الأولى». واستمر الخلاف إلى أن تغيرت المعادلة وتبدلت قوانين اللعبة وانتقل العالم إلى «السلم البارد» الذي تحكمت الولايات المتحدة في قوانينه ولاتزال حتى الآن.

في ظل «السلم البارد» شهدت المنطقة العربية - الإسلامية سلسلة حملات سياسية وعقائدية ترافقت مع ضربات عسكرية ومجموعة حروب كبيرة وصغيرة لم تعهدها في السابق حتى في فترة «الحرب الباردة». وأدت هذه الحملات والضربات إلى زعزعة الاستقرار وتهديد الأمن الداخلي وتشويه الإسلام واعتباره العدو الأيديولوجي الجديد.

هذا الانقلاب في الموقف الدولي قادته الولايات المتحدة وأخذت تعمل على استثماره سياسيا وتوظيفه أيديولوجيا ضد الإسلام والمسلمين. وساهمت هذه الحرب الأيديولوجية (الثقافية) على تاريخ الإسلام وحضارته وعاداته وتقاليده في تشكيل قوة ضغط دولية على الدول العربية والمسلمة لا لسبب وجيه وإنما لكونها تعتنق الدين الإسلامي وتتمتع بموقع جغرافي استراتيجي وتحتوي على ثروات طبيعية وخامات تحتاجها الصناعات الغربية.

دفع المسلمون الثمن غاليا بسبب هذا الانقلاب الدولي وتحولت الدول والجاليات والأقليات المسلمة إلى أهداف سهلة وحقل تجارب للنظريات السياسية والأسلحة الجديدة. فأميركا اكتشفت في الإسلام ذاك العدو الأيديولوجي البديل وأخذت تتعامل معه كقوة مضادة للغرب وحضارته وثقافته.

وبسبب عدم استعداد المسلمين لمثل هذه المواجهة العالمية تشكلت قناعات في الولايات المتحدة بأن الإسلام قوة ضعيفة ومن السهل احتواء دوله وبسط السيطرة عليها وعزلها عن العالم والاستفراد بثرواتها ومواقعها. وحين حصلت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في ظل تحكم تيار «المحافظين الجدد» على قرار إدارة واشنطن استخدمت تلك الاعتداءات منصات سياسية وعسكرية وأيديولوجية وثقافية لتبرير الهجمات على الإسلام والمسلمين وكانت حصة السعودية من حملات التشوية والافتراء هي الأكبر.

استغل تيار «المحافظين الجدد» وجود أسماء سعودية بين ركاب الطائرات الأربع ليشن تلك السياسة الاستعلائية والفوقية والعنصرية ضد حضارة ساهمت في صنع مستقبل البشرية والإنسانية. وبدأت تصدر عشرات الأفلام ومئات الكتب وآلاف المقالات لتأكيد خطر الإسلام على العالم لكونه يحرض على ثقافة الكراهية والعنف. وأعقبت تلك الحملة سلسلة دراسات وبحوث ومشروعات عمل تطاولت على ديانة المسلمين واقترحت على الدول المسلمة تغيير البرامج التعليمية وتبديل مناهج التربية حتى يكون الإسلام في الموقع الصحيح والمكان المناسب.

تحت هذا الهجوم الساخن في ظل فترة «السلم البارد» تلقى العالم الإسلامي موجات سياسية من الحملات الثقافية والضربات العسكرية. وجرى كل ذلك باسم الحرب الأيديولوجية الجديدة ضد العدو البديل عن الشيوعية. وبطبيعة الحال كانت السعودية بحكم مكانتها الدينية وموقعها الاستراتيجي وثرواتها النفطية أكثر الدول عرضة لحملات الافتراء والتشويه.

وهكذا انقلبت الأمور وتعدلت التحالفات واختلفت الأهداف. فالسعودية التي كانت في فترة «الحرب الباردة الأولى» صديقة الولايات المتحدة في مواجهة الخطر الشيوعي تحولت فجأة إلى خصم أيديولوجي في فترة «السلم البارد»... وبات على الرياض أن تدفع كلفة تلك الحرب المفروضة من سمعتها وموقعها ودورها ومكانتها.

فضاءات انقلابية

وسط هذه الفضاءات الدولية الانقلابية ظهرت توجهات براغماتية سعودية جديدة أخذت تفتح الأبواب والنوافذ مع خصوم سابقين أو أعداء أيديولوجيين في العقيدة والثقافة. فروسيا مثلا لم تعد ذاك الاتحاد السوفياتي الذي يقوده الحزب الشيوعي. والصين لم تعد تلك الدولة التي تتحكم الماركسية في قراراتها. وشكل هذا التعديل في السلوك «السوفياتي» أو الصيني السابق بداية تبديل في وجهة نظر السعودية وتعامل الرياض البراغماتي مع دولتين كبريين لا ترفعان لواء العداء للإسلام والمسلمين كما هو حال الولايات المتحدة في عهد تيار «المحافظين الجدد». فهذا التيار الأيديولوجي الانقلابي ساهم بسياسته التقويضية في تحويل الأصدقاء إلى خصوم والأعداء إلى أصدقاء.

هذه القراءة السعودية الجديدة للخريطة الدولية ساهمت في تعزيز نزعة براغماتية تتجه نحو نوع من التعددية في التعامل مع الدول الكبرى، ولذلك توجهت الرياض لفتح النوافذ ومد الجسور وترميم العلاقات. فكانت زيارة خادم الحرمين لموسكو أعقبتها زيارة أخرى لبكين. والآن نرى بوتين يرد الزيارة إلى الرياض. وفي هذا المعنى يعتبر وجود بوتين في السعودية علامة فارقة في تاريخ العلاقة بين الدولتين، وخصوصا أن الزيارة تأتي في ظل بداية ارتسام الخطوط العريضة لفترة جديدة من «الحرب الباردة الثانية».

قوانين «الحرب الباردة» الجديدة تختلف في شروطها عن تلك السابقة. فهي لن تكون أيديولوجية، كذلك لن تقتصر على دولتين تتقاسمان السياسة الدولية بين موسكو وواشنطن كما كانت حال الحرب الأولى. فالحرب الثانية ستكون تعددية وستتحكم فيها المصالح والبراغماتية والتوازن في المصالح. وهذا النوع من التعدد يعطي فرصة للدول العربية والإسلامية أن تعيد إنتاج موقعها وتطويره في ظل توازنات دولية لا تعتبر الإسلام عدوها التاريخي والحضاري. كذلك يساهم نمو علاقات تعددية في السياسة الدولية في تشجيع دول إقليمية كبيرة على لعب دور خاص في ضبط المصالح ضمن رؤية معتدلة ومتوازنة. وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال مراقبة السلوك السعودي البراغماتي وتعامله الدقيق مع ملفات حساسة في فلسطين ولبنان والعراق وإيران.

هذا الدور السعودي العربي - الإقليمي يعتبر من تلك المؤشرات التي أخذت تظهر بهدوء في سياق تحولات سياسية في العلاقات الدولية. فالرياض خلال الفترة الفاصلة بين انهيار «الحرب الباردة الأولى» وبداية تشكل مناخات «الحرب الباردة الثانية» كانت الأكثر تضررا وخصوصا حين ركزت واشنطن عليها الاتهامات والافتراءات بعد هجمات 11 سبتمبر. كذلك ساهمت حروب أميركا على أفغانستان والعراق ثم لبنان وفلسطين في إضعاف الموقع السعودي من خلال توجيه ضربات عسكرية وسياسية مباشرة وموجعة للمشروعات العربية وما تعنيه من هوية جامعة وثقافة مشتركة.

زيارة بوتين مهمة وجاءت في وقت مناسب ويمكن قراءة بعض جوانبها في سياق دولي يتجاوز أو يتقاطع مع دور السعودية الإقليمي الذي أخذ ينمو اقتصاديا ويتنامى سياسيا. فهذه الزيارة تعتبر نقطة تلقي الضوء على تحولات لافتة تشهد لحظة انتقالية في العلاقات السعودية - الروسية من طور الانقطاع إلى التقاطع.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1621 - الإثنين 12 فبراير 2007م الموافق 24 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً