الانتقاد العنيف الذي صدر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للسياسة الأميركية في الكلمة التي ألقاها في «المؤتمر الدولي للأمن» في ميونيخ شكل مفاجأة غير متوقعة من جانب إدارة واشنطن. فالناطق باسم «البيت الأبيض» عبّر عن دهشته وخيبة أمله من كلام الرئيس بوتين. الناطق لم يرد على الكلام بتوضيح أو شرح واكتفى بإبداء استغرابه على رغم أن ما قاله الرئيس الروسي ليس غامضا.
هناك نقاط محددة ذكرها بوتين في خطابه وهي أما أن تكون صحيحة أو مفترضة أو مفتعلة أو خاطئة. وهذا تجنب الناطق في عدم الرد عليه. فالرئيس الروسي وضع ملاحظات على السياسة الخارجية الأميركية، واعتبر أن واشنطن لا تحترم العلاقات الدولية، وهي تنفرد بالقرارات وتجر العالم إلى نوع من التوتر والاستقطاب. ورأى الرئيس بوتين أن الإجراءات الأميركية وتصرفاتها «الأحادية» زادت من مشكلات العالم، ودعا الإدارة إلى الإقلاع عن سلوك «السيد الواحد» و»القوة الواحدة» و»القطب الواحد». ونبه بوتين الولايات المتحدة إلى خطورة المبالغة في هذا النهج داعيا إلى المشاركة واحترام مصالح الآخرين والإقلاع عن التفرد والاتجاه نحو التعددية الدولية.
كلام بوتين في ميونيخ صحيح وجاء في وقت مناسب وهو يشير إلى معضلة قانونية في العلاقات الدولية. فالرئيس الروسي لم يختلق أزمة وإنما حدد عناصرها. كذلك لم يكشف الغطاء عن «إسرار» دولية وإنما أشار بوضوح إلى سياسة زادت من مشكلات العالم.
الناطق عاتب بوتين على كلامه ولم يذكر الأسباب الموجبة لمثل ذاك العتاب. فهل الكلام خطأ وإذا كان كذلك فما هو الصواب؟ هذا ما تجنب الناطق ذكره في الرد على كلام الرئيس. وعدم الرد يعني أن ما قاله بوتين في خطابه أصاب الهدف وحدد عناصر المشكلة ومصادرها.
يبقى السؤال: لماذا قال بوتين هذا الكلام في مؤتمر دولي للأمن يحضره رئيس روسي للمرة الأولى منذ العام 1962؟ فالمناسبة مهمة والمكان لا يقل أهمية والكلام أكثر أهمية.
الرئيس بوتين لابدّ أنه يرد على مسألة محددة في سياق سياسة دولية اعتمدتها أميركا في العقد الأخير. فهل الكلام يسجل ذاك الاعتراض العام على سياسة عامة أم أنه يقصد مسألة محددة تتعلق بنشر الولايات المتحدة منظومة صواريخ بالستية بعيدة المدى في أوروبا (بولندا، رومانيا وتشيكيا) تهدد أمن روسيا؟ وهل الكلام تعمد إثارة مسألة التفرد في مناسبة زيارته للمرة الأولى للسعودية وهي زيارة تعتبر بمثابة خرق سياسي لمنطقة مهمة استراتيجيا واقتصاديا ويتوقع لها أن تكون ناجحة في المعايير الثقافية والتجارية؟ وهل الكلام جاء ردا غير مباشر على تلك الحشود البرية والبحرية التي أخذت واشنطن في تعزيزها بالعراق ومنطقة الخليج؟
الاحتمالات الثلاثة واردة وهي كلها تشير إلى وجود حساسية روسية من سياسة الإفراط في التفرد بالقرارات التي دأبت الولايات المتحدة على اتخاذها من دون تقدير أو احترام لمصالح أو حتى وجود القوى الدولية الأخرى.
إلا أن الاحتمالات الثلاثة ليست كافية لقراءة خطاب بوتين. فالخطاب أقوى في إشاراته وهو يتناول مجمل السياسة الأميركية ولا يقتصر نقده على مناطق محددة. والكلام الشامل يعني إن روسيا بدأت تستعيد موقعها الدولي بعد غياب دام نحو 15 سنة. وينعطف الكلام على قراءة جديدة تشير إلى إحساس موسكو بوجود خلخلة في السياسة الأميركية يعكس بداية ضعف يتمثل في الضياع وعدم الوضوح في الرؤية. والضعف في العلاقات الدولية يعني أن الطرف الآخر دخل مرحلة سيشهد خلالها بداية عدم القدرة على السيطرة. والعجز في السيطرة تعني القبول بالآخر والاستعداد للتفاوض معه بقصد مراجعة الكثير من الملفات.
الهجوم المعاكس
كلام بوتين إذا ليس مجرد ملاحظات نقدية وردت في مقال لصحافي أو دراسة لأستاذ جامعي أو تقرير صدر عن معهد استراتيجي أو مجرد تقدير موقف أشار إليه باحث في علم الاجتماع أو السياسة. الكلام صدر عن رئيس دولة كبرى كانت قبل أقل من عقدين الشريك الثاني في تقرير السياسة الدولية. والكلام ليس جديدا في معانيه ومقاصده فهو قيل مرارا وكرره الكثير من الصحافيين والكتاب والمراقبين والسياسيين في أميركا وأوروبا وآسيا و»الشرق الأوسط». الجديد في الكلام إن الرئيس بوتين هو من قاله. ولعلّ هذا هو السبب الذي دفع الناطق باسم «البيت الأبيض» إلى السكوت والاكتفاء بالدهشة والاستغراب.
مثل هذا الكلام لا يقال عادة علنا بين رؤساء الدول الكبرى، ومجرد قوله في العلن يعني أن التوتر بين الطرفين وصل إلى حد لم يعد بالإمكان تغليفه وتعليبه بالمفردات الدبلوماسية والمصطلحات الغامضة.
خطاب بوتين خطوة في الاتجاه الصحيح، ولا يمكن فهمه إلا إشارة إلى بداية هجوم معاكس قررت موسكو خوض غماره بعد فترة تراجع في الكثير من الحقول والميادين. فروسيا خسرت عشرات المواقع وتنازلت عن نسبة عالية من حقوقها وفقدت هيبتها ولم تعد تلك الدولة التي يؤخذ برأيها أو يحسب حسابها في المعادلة الدولية. وأميركا في المقابل كسبت عشرات المواقع وغرفت من حقوق غيرها واستخدمت قوتها العسكرية لفرض هيبتها وكسر شوكة الدول المخالفة لسياستها وتفردت في الكثير من القرارات ولم تحترم وجود غيرها ولا مصالح القوى الأخرى.
هل أراد بوتين أن يقول للولايات المتحدة في خطابه في ميونيخ «كفى»؟ ربما يكون السؤال مجرد استباق للأمور. إلا أن المشهد الدولي يؤكد وجود متغيرات أخذت ترسم الخطوط العريضة لعودة «الحرب الباردة الثانية». فالكلام ليس زوبعة في سماء صافية سيتلاشى بعد فترة زمنية. وإنما هو بداية تأسيس لنوع من التوازن الدولي يقوم على التعددية ويفرض ما يشبه الرقابة على السلوك الأميركي الذي بالغ في سياسة التفرد وأفرط في اعتماد دبلوماسية القوة في التعامل مع القوى الإقليمية وتحديدا تلك الدول في منطقة ما يسمى «الشرق الأوسط».
العالم الآن بحاجة فعلا إلى هذا الكلام. وهو أيضا ينتظر ظهور تلك الدول القوية القادرة على تحمل مسئولية خطابها. و»كفى» التي لم يقلها بوتين في خطابه تشكل بداية رد على سياسة الاستقواء والبلطجة والتهويل... وهي سياسة دفع العرب والعالم الإسلامي والقوى الحرة في العالم ثمنها غاليا وآن الأوان لوضع حد لها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1620 - الأحد 11 فبراير 2007م الموافق 23 محرم 1428هـ