مع التماعات التفاصيل من حولنا وتوالدها، تكون الكتابة نزفا نتقاسمه مع الوقت، مع ما يمس عيوننا ويجذب قلوبنا ويحرك سكناتنا ويلامس أجسادنا، تكون الكتابة علاقة مع الأشياء وحركة الحياة وأضدادها، فالشعور بالألم والمعاناة... بالفرح والمتعة، يجعل من الكتابة مصفاة تنقّينا..تطهّرنا..تشذّب النباتات الجهنمية النامية بأحشائنا وتشكّل معالم أحجامنا في كل كلمة وعبارة، تهزّ النظام الخامل فينا، تنمّي الضوضاء وتدفعنا للمشي باستمرار كما الأطفال، ترسمنا فتكشفنا في زمن يعبد الأقنعة والأقفال والحواجز. الكتابة لغة الحياة، فما بالنا إن كانت عن مدن تفرض علينا حضورها!
أفعى الفقر
التنقل بين مدن النفط وبين بيروت يضعك هذه الأيام في حال من الإرباك النفسي والمعنوي، فكل مدينة من هذه المدن تلقي بأثقالها على أكتافك، لتودعك ثانية في جوف ذاتك المتكسرة، فتزيد من انقساماتها وتبعثرها. من الحرب تنفض بيروت عن عيونها النوم، تستيقظ مع انطلاق الأصوات التي تدق نواقيسها، ومثلما اعتادت، تتقدم لتعبر من زمنها الحاضر إلى زمن آخر. يبدو الهواء فيها أكثر كثافة بالصمت الثقيل، أكثر إلحاحا في البحث من جديد عن الذات المتعددة الهويات، أشد معاناة وقسوة، وهي التي يدور فيها دبيب الحياة الذي لا يهدأ. بيروت بأقمارها وأفراحها وأحزانها تروي شتلات الورد في زمن عربي مسخ يعاني من الجذام، وخلف ضفافها مازالت تفتح الأبواب للزائرين بمسحة من الكآبة والحزن والتوتر واللوم.
في زاوية بإحدى زقاق «شارع الحمرا» المحاذي لمطعم «بربر» الشهير الذي يعج بالذاهبين والآيبين من أعمالهم أو توجهاتهم لساحات الاحتجاج والاعتصامات، يبكيني مشهد ثلاثة ختيارية «كبار السن» تموضعوا حول فرشهم التي يعرضون فيها القدّاحات والخواتم الفضية الرخيصة والسبحات التي راج استعمالها مع رواج «التسبيح بحمد الله والدعاء والاستغفار»، يبيعون ما قد لا يستطيعون اقتناءه ولبسه، كانوا يتقاسمون حلقة خبز جافة من الكعك المسمسم في ظهيرة شتاء قارس البرد، ترى ما الذي دفعهم لحال البؤس؟ ألا بِئس زمن الفقر الأغبر الذي يتمدد كالأفعى في مجتمعاتنا العربية الزاخرة بمنابع النفط ومدنها المعلّبة.
ضاع صوت فيروز
على ضوء مصابيح شوارعها الخافت في الميادين التي تعج باحتجاجات وإضرابات تطالب «الحكومة» بالاستقالة، لا تسمع تغريدا للطيور في داخلك، وتتيه منك الألحان وتختلط عليك كلمات الأغاني، تضيع منك «فيروز، ووديع الصافي»، وتصير أذناك أسيرة أغاني «حرب تموز» التي تشدو ببطولة رجال المقاومة، وتلعن أميركا و»إسرائيل» وأكواب الشاي، وتبكي موتى المجازر وأجساد الأطفال الممزقة التي قبرت تحت الأنقاض. لا سجادة مخملية حمراء تدوس عليها هناك، بل أعلام ترفرف بكل الألوان ومساحات جدارية تزيّنها صور كثيفة «للزعماء والشهداء»، لا يتحرك الفرح في قلبك وأنت تحدّق في الغسق من شرفة المقاهي المحاذية لساحل «الروشة»، فأنت تغرق في التأملات، تبحث عن أجوبة لأسئلة كثيرة مكتظة، فكلما طالعتك ملامح الغضب والانفعال المكبوت وكشّرت نسور الفقر والعوز وعدم الأمان عن نفسها، ضجّت مشاعرك من أوكارها.
دخول «بيروت» ورطة، تضيع في متاهتها، دخولها ليس مثل الخروج منها، إنها تفرض نفوذها، تغرس أظافرها، تدور بك من وادي أخضر مقفر إلى آخر، بيروت التي تعيش في أعماق بحرها، وضمّادات الجراح التي مازالت تلف خصرها، ينهشها النور والضياع، فهي تتورم مع كل نوبة ألم، وهي الجريئة التي لا تعرف النوم والبلادة التي تغط فيها مدن النفط المزينة المسجّاة في توابيتها ومبانيها الإسمنتية كما الأموات، بيروت ليست كبقية المدن العربية؛ لأنها لاتزال تبحث عن نبوءتها من تحت أجفانها الراكدة، على رغم يترقبون موتها. كَثُرت الثرثرة في بيروت، والثرثرة هناك لها نكهة خاصة مليئة بسلال الخضار وصناديق «الحامض والليمون والفريز» التي تملأ شوارعها وأزقتها، ونساؤها الجميلات والصبايا الأنيقات أبدا، الحالمات اللواتي ينسكبن في الأقداح الزهرية كماءٍ زلال رقراق، مازلن ينتظرن نبوءتهن البلّورية الآتية من الموانئ البعيدة.
الحاجة «أم أحمد»
الحاجة «أم أحمد» قانطة، حزنها عميق على خسارة بيتها الجنوبي الذي استوى بالأرض في حرب تموز، هدمه قصف الطيران الإسرائيلي، تنهّدت شاكية لي:
- يا أمي، فقدت البيت، راح كل ما أملك فيه من ذكرياتي مع الحاج «أبو أحمد» الذي رحل منذ عام، ملاعقي الفضية، طقم الطعام الصيني الذي أحضره ابني، الضوء الذي كان يتسلل عبر نوافذي، فقدت بيتي الجنوبي، لم يعطوني عنه بديلا بعد. أصبت بالكآبة، كاد قلبي أن يتوقف، «خذني ابني لمدة شهر ع فرنسا، وقال لي:
- يا أمي، البيت كوم حجر ع حجر، في حدا بيبكي ع حجارة، كله يتعوض ما دمت قد سلمت لنا».
سألتها:
- كيف نجوتِ من القصف؟
ردت: معجزة من الله، أعجوبة، حوصرنا، لم أجد حد ينقلني إلى بيروت، لولا رحمة الرحمان التي بعثت لي «السيدعلي» وأخواته البنات أيلي حملوني على ظهورهم لمدة ثلاثة أيام من ضيعة لضيعة والقصف الإسرائيلي على رؤوسنا مستمر، حتى وصلت لعند أولادي ببيروت، ما بيروت يا أمي كانت بتقصف صوب الضاحية هي كمان!
«أم أحمد»، جدة جنوبية شيعية تزوجت في صباها من «أبوأحمد» الجزائري الذي كان يعمل في الجيش الفرنسي، خلفت منه البنات والأولاد الذين يتوزعون اليوم ما بين بيروت، والجزائر وباريس. حفيدها الصغير من ابنتها الكبرى «داني» المسيحي الأب، يرن هاتفه على صوت خطابات «سيدحسن نصرالله»، لا يرد على الهاتف بسرعة إنما يواصل ترديد عبارات الخطاب الذي ثبته كرنّة لجواله يحفظها عن ظهر قلب، ثم يجيب على المكالمة، وما أن انتهى حتى دعس الكاسيت ودور مسجل السيارة يسمعنا أغنية «أناديكم»، طلبت منه:
-خالتو، فيك «تعلى الصوت»؟!
يرتفع صوتي معه في الغناء «أناديكم، أشد على أياديكم، وأبوس الأرض، تحت نعالكم وأقول أفديكم...». يتلفت «داني» خلفه حيث أجلس بين جدته وأمه في المقعد الخلفي للسيارة، يسترق النظر والسمع لي، مستغربا، يسأل أمه:
-خالتو بتعرف الأغنية؟
تبتسم الأم قائلة:
-نعم «داني»، ما همنا واحد يا حبيبي!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1619 - السبت 10 فبراير 2007م الموافق 22 محرم 1428هـ