أحدث «تفاهم مكة» بين حماس وفتح برعاية سعودية ردود فعل ايجابية من مختلف دول وهيئات ومنظمات العالمين العربي والإسلامي والعالم. فالكل تقريبا اعتبر التفاهم خطوة في الاتجاه الصحيح ورأى فيه وسيلة لاحتواء التعارضات السياسية ومنعها من التفاقم والانفجار.
الولايات المتحدة هي الدولة الكبرى الوحيدة التي تعاملت مع التفاهم بحذر، إذ لم تعارضه ولم تؤيده. بينما اتجهت «إسرائيل» إلى رفضه وشككت بفاعليته وأخذت توجه سهام النقد لبنوده في محاولة منها لتفخيخه من الداخل. فحكومة إيهود أولمرت كانت تراهن على الاقتتال الفلسطيني لتمرير سياستها العامة وتنفيذ مشروعها القاضي بتثبيت الاحتلال من خلال تغيير المعالم وتعديل الخريطة السكانية للأراضي المحتلة.
تل أبيب كانت الجهة الأكثر تضررا من توقيع مسودة التفاهم لذلك لجأت إلى البحث عن ذرائع تبرر موقفها فأخذت تركز على موضوع الاعتراف وعدم وجود فقرة توضح هذا المسألة. كذلك ركزت على موضوع نبذ العنف (رفض العمل المسلح) معتبرة أن هذه المسألة تشكل نقطة مركزية لتأسيس نوع من الثقة بين الطرفين. ولأن تل أبيب لا يعنيها التفاهم الفلسطيني تشددت في رفضها لطبيعة السلطة التي يرجح أن تظهر في صيغة حكومة فلسطينية يتوقع أن يعلن عنها في الأسبوع المقبل.
الموقف الإسرائيلي السلبي من التفاهم والحكومة وطبيعة السلطة الفلسطينية يشكل نقطة توتر محتملة في المرحلة المقبلة. وهذا يعني أن فتح وحماس وبقية الفصائل ستواجه ذاك الامتحان العسير في تسيير أمورها. فتل أبيب اشترطت الاعتراف ونبذ العنف والإقلاع عن العمل المسلح، من النقاط التي يجب أن يتضمنها التفاهم حتى تستوي العلاقة ويعاد بناء الثقة على أساسها. وبما أن هذه النقاط لم ترد بوضوح في نص التفاهم واكتفي بالإشارة إليها مداورة من خلال إقرار حماس بالاتفاقات التي وقعتها السلطة الفلسطينية في فترات سابقة وجدت تل أبيب أن الاتفاق ليس كافيا ولا يعنيها.
اشتراطات حكومة أولمرت ستضع سلسلة عراقيل في وجه نشاط الحكومة الفلسطينية. ويرجح أن تتحول تلك الشروط إلى أدوات للقمع وذرائع لمواصلة الحصار والضغط وربما التصعيد العسكري. وهذا النوع من السلوك الإسرائيلي ليس جديدا. فتل أبيب اعتادت على رفض مبادرات السلم العربية واعتبرتها دائما ناقصة ولا تفي بالحاجة. حتى اعتراف الدول العربية بالقرار الدولي 242 في العام 1967 ثم القرار 338 في العام 1973 وغير ذلك من مشروعات تتضمن ذاك الإقرار بالاحتلال ووجود الدولة العبرية ضمن أراضي 1948 تعاطت معها تل أبيب بالسلبية والتعالي والتشاوف والاحتقار والإمعان في الاستيلاء على الأراضي وطرد الناس وإسكان مستوطنين.
«تفاهم مكة» يشتمل على كثير من التنازلات ويعطي إشارات خضراء لنوع من الاعتراف بوجود الدولة، ويؤشر على استعداد لنبذ العنف، ويفتح الباب على احتمال إعادة التفاوض انطلاقا من تلك الاتفاقات التي سبق أن وقعتها تل أبيب مع السلطة الفلسطينية. إلا أن تل أبيب لم تكترث لتلك التنازلات والإشارات والاستعدادات ولم تقرأ جيدا معاني الكلمات وما تشتمله الفقرات من انفتاح ايجابي على تثبيت هدنة يمكن الاستفادة منها لتطوير ثقة منهارة. وهذا النوع من السلوك السلبي يطرح فعلا السؤال الآتي: هل «إسرائيل» تريد السلام مع الفلسطينيين؟ والسؤال عن الجانب الفلسطيني يطرح أيضا مجموعة أسئلة من نوع: هل «إسرائيل» في وضع سياسي وأهلي وثقافي وايديولوجي يسمح لها بالانفتاح على دول الجوار العربية؟ وهل هي جادة في اتخاذ خطوة باتجاه التفاوض مع الدول العربية وتوقيع معاهدة سلام مع العرب؟
السلوك الإسرائيلي السلبي من مبادرة السلام العربية التي أقرت في قمة بيروت، ثم أطاحت تل أبيب بتلك الاتفاقات السلمية التي وقعها معها ياسر عرفات في أكثر من مكان، وأخيرا رفض «تفاهم مكة» والعمل على تفخيخه سياسيا... كلها إشارات تدل على أن «إسرائيل» دولة غير جاهزة للسلام أو هي غير مستعدة لهذا النوع من الاعتراف مقابل تنازلها عن الأراضي المحتلة.
عقدة «الغيتو»
الرفض الإسرائيلي كما يبدو يتشكل سياسيا من عقدة نفسية محكومة بأيديولوجية تعتمد على ثقافة العزلة والانغلاق والتقوقع على الذات خوفا من الآخر المختلف في تكوينه وتاريخه ودينه وحضارته. وثقافة العزلة هذه المجبولة بالمخاوف والتوجس والقلق والتوتر لم تتأسس خلال العقود الخمسة الأخيرة أي قبل أو بعد نكبة فلسطين. فهذه الثقافة (حياة العزلة) أوروبية المنشأ وتأسست خلال 20 قرنا في فترة الانعزال عن المحيط المسيحي في أحياء المدن الأوروبية.
أيديولوجية «الغيتو» تشكل عقبة نفسية أمام «إسرائيل» لأنها تعتبر تاريخيا ذاك الحصن الثقافي الذي تحول إلى ما يشبه السور السياسي الذي يحمي «الأقلية» من التفكك والذوبان في محيط يكن الكراهية والعداء لليهود. وبسبب هذه الايديولوجية الموروثة تاريخيا تأسست قناعات عند مؤسسي الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر بأن الاندماج في المجتمعات الأوروبية ليس حلا ولابد من تأسيس دولة مستقلة في ارض جغرافية لا شريك فيها ولا مشاركة.
هذا النوع من التفكير الايديولوجي الذي ظهر في كتابات شريحة من اليهود في أوروبا تحول إلى مشروع سياسي نجح في تأسيس دولة في فلسطين محاطة بثقافة مختلفة وعداء وكره بسبب إقدام جحافل المهاجرين على اعتماد منهج الاستيلاء والطرد ضد سكان البلد الأصليين. ولذلك وجد المؤسسون في ثقافة العزلة (الغيتو) أفضل سلاح ايديولوجي للحماية ومنع الاندماج أو الانصهار في المحيط. وتعزز سلوك الجيل الأول (المؤسس) بسلسلة من الحلقات الايديولوجية التي رسخت القناعة بأهمية الاستمرار في تبني ثقافة العزلة (الغيتو) حين وجد نفسه في موقع الأقوى عسكريا والمتفوق اقتصاديا على المحيط. وشكل هذا التفاوت إضافة نوعية جعلت من «الدولة» مجرد قلعة تحارب الجيران وتضطهدهم وتسلب أرضهم وتسرق ثرواتهم.
الإحساس بالتفوق أدى إلى اعتماد سياسة القوة في التعامل مع الفلسطينيين ودول الجوار. وساهم هذا الإحساس في تثبيت تلك الثقافة المستوردة من «الفيتو» بصفتها تشكل ذاك السور السياسي الذي يحصن الأقلية ويمنعها من التفكك أو الاندماج أو الانصهار. إلا أن الغيتو اليهودي في أوروبا تميز عن الغيتو اليهودي في فلسطين بفوارق كثيرة منها أن الأول كان في موقع الضعيف والمعزول بالقوة عن المحيط بينما الثاني أصبح في موقع القوي الذي يفرض العزلة على الفلسطينيين من خلال بناء «جدار» يحجزهم ضمن أسوار تمنع عنهم الانتقال أو التواصل.
فكرة العزلة التي تأسست عليها «الدولة الإسرائيلية» تحولت الآن إلى نوع من الايديولوجية السياسية المحكومة بعقلية «الغيتو» التي تهاب الانفتاح وتتخوف من المحيط. وبسبب ثقافة العزلة هذه تشكلت في «إسرائيل» اتجاهات متعارضة بين نزعة تميل إلى تثبيت فكرة «القلعة» المحاطة بالأعداء والمهددة بالحروب ونزعة تقترح خوض تجربة الانفتاح والتعامل بحذر مع المحيط على شرط أن تكون «إسرائيل» هي حجر الأساس في أي بناء سياسي سيقوم في منطقة «الشرق الأوسط».
النزعة الأولى تمثل فكرة الخوف من الآخر والثانية تمثل فكرة التفوق على المحيط. وبين النزعتين السلبيتين تعيش «إسرائيل» منذ فترة هاجس «السلم». ولذلك ترددت الحكومات المتعاقبة منذ سبعينات القرن الماضي في قبول المبادرات العربية التي اقترحت التفاوض الشامل والكامل انطلاقا من القرارات الدولية. فتل أبيب لاتزال تميل إلى ثقافة العزلة (الغيتو) المعززة بأيديولوجية التفوق على المحيط المختلف في حضارته وتكوينه التاريخي. ولهذا كانت حكومات تل أبيب تبحث دائما عن الذرائع لتبرير رفض كل مبادرات السلم العربية التي اشتملت ضمنا على الاعتراف بالقرارات الدولية والإقرار بوجود «إسرائيل».
المشكلة ليست في الجانب الفلسطيني أو العربي. إنها في الجانب الإسرائيلي. فهذه «الدولة» تأسست في لحظة زمنية مفارقة ونجح الجيل المؤسس في تحصينها والآن دخلت طور الجيل الرابع وهذا يعني أنها أصبحت تواجه تحولات تاريخية تمس كيانها ووجودها وتحتاج إلى ثقافة مخالفة للعزلة تساعدها على تخطي حاجز الخوف النفسي والانتقال من وراء سور «الغيتو» والانغلاق إلى عالم منفتح ومتسامح ويملك الاستعداد الايديولوجي للاندماج.
رفض حكومة أولمرت «تفاهم مكة» الفلسطيني ليس جديدا على دولة لاتزال تعيش كوابيس «الغيتو». الجديد هو أن تقلع تل أبيب عن فكرة الخوف أو عقدة التفوق وسياسة القوة. وهذا الجديد لم تظهر إشاراته حتى الآن.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1619 - السبت 10 فبراير 2007م الموافق 22 محرم 1428هـ