تصر مؤسسات البحث العالمية على الاستخفاف بالعقل العربي، وآخر تلك الممارسات تقرير صدر عن إحدى المؤسسات الاستشارية العالمية، كما في موقع «محيط»، يدعو، بشكل مبطن، العرب إلى التباهي لأن «أسواق الشرق الأوسط قاومت الهبوط الحاد الذي عصف بأسواق الاكتتابات محققة 3.61 مليارات دولار من عائدات 12 اكتتابا شهدها الربع الثالث من العام الجاري 2008، مقابل 4.72 مليارات دولار تحققت عبر 13 اكتتابا خلال الربع الثاني لهذا العام. وعلى رغم أن نتائج هذا الربع تراجعت بنسبة 23 في المئة عما شهدته المنطقة في الربع السابق، فقد جاء أداء أسواق المنطقة أفضل بكثير من أداء الأسواق العالمية». ويحاول التقرير أن يتلاعب بالأرقام فيورد معدلا للاكتتاب يشمل الأشهر التسعة الأولى، إذ يقول «إن عدد الاكتتابات العالمية خلال الأرباع الثلاثة الأولى من العام 2008 بلغ 676 اكتتابا بقيمة 92.5 مليار دولار مقارنة بـ 1388 اكتتابا بعائدات بلغت 185 مليار دولار خلال الفترة نفسها من 2007».
لن نحاول أن نتحدى دقة مصادر المعلومات التي استقى منها التقرير البيانات التي استخلص منها النتائج التي توصل إليها، لكننا سنورد بعض الملاحظات التي نود أن يتنبه لها القارئ كي لا تجرفه نبرة التفاؤل التي سادت التقرير، فتعميه عن رؤية حقيقة اقتصاد بلاده.
الملاحظة الأولى، منذ متى كان الاكتتاب وحجمه معيارا وحيدا يدلل على متانة الحالة الاقتصادية وسلامتها؟ يدلل حجم الاكتتاب وعدد الشركات المكتتبة على الحالة الصحية التي يتمتع بها الاقتصاد، فقط عندما يكون مصاحبا لمعدلات نمو جيدة.
الملاحظة الثانية، أنه حتى بالنسبة إلى الأسواق العربية، فمن المعروف أن الاقتصاد الريعي الأحادي السلعة التي هي النفط في حالتنا العربية، تفقد الاكتتابات ذلك الثقل الذي تتمتع به في الأسواق الأخرى نظرا إلى عاملين: الأول، غياب تعددية مصادر النمو، الأمر الذي يجعل النمو ضيقا ونحيفا ومحصورا في سلعة واحدة قابلة لتقلبات الأسعار، ما قد يؤدي إلى اضطراب الأسواق، ومن ثم الاقتصاد في حال تراجع أسعار تلك السلعة الوحيدة. هذا، في حقيقة الأمر، ما بدأنا نشهده مؤخرا بالنسبة إلى الدول النفطية. العامل الثاني، أنه حتى الربع الثالث من هذا العام، لاتزال الدول الخليجية متخمة بالسيولة النقدية التي ولدتها طفرة الأسعار الأخيرة، الأمر الذي يضع بين أيديها سيولة كافية توفر لها هامشا من القدرة على الاكتتاب، لكنها قدرة مؤقتة ومحفوفة بالمخاطر. ولذلك فمن المبكرالخروج بأية إستنتاجات، وخاصة أن أسعار تلك السلعة قد بدأت تشهد هبوطا حادا لا تقل سرعته عن تلك السرعة التي تمتعت بها في مراحل الصعود. وهناك من يتوقع أن يهبط سعر برميل النفط ليستقر بين 50 و60 دولارا للبرميل.
الملاحطة الثالثة، هي أن المنطقة العربية ليست الأسرع، زمنيا، من بين الأسواق العالمية في التأثر بما حل بالأسواق الأميركية، كما هو الحال بالنسبة إلى الأسواق الأوروبية، وطالما أن الأزمة تفاقمت خلال الربع الثالث في الولايات المتحدة، فمن المتوقع أن تهب رياحها خلال الربع الرابع من هذا العام على المنطقة العربية، ولذلك فمن الخطأ استباق الأحداث والخروج بأي استنتاجات مبكرة.
الملاحظة الرابعة هي أن مما يزيد من خطورة هذا التقرير، ليس كونه يصدر من مؤسسة عالمية لها ثقلها في المنطقة العربية، ومن ثم فقد يستخدم ما توصلت إليه من استنتاجات لذر الرماد في العيون فحسب، وإنما لكون ذلك التقرير ينشر أيضا في فترة يمطرنا بتصريحات مفادها «أن الأوضاع الاقتصادية العربية على مايرام... وانه ليس هناك ما يدعو إلى الخوف أو حتى التشاؤم». ولعل فيما جاء في التصريحات التي أعقبت الاجتماع الاستثنائي لوزراء المالية ومحافظي المصارف المركزية الخليجيين الذي عقد يوم السبت (25 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري)، لتدارس الأزمة المالية التي تمر بها الأسواق المالية العالمية أكبر دليل على صحة ما نقول.
يمكننا أن نسوق الكثير من الأدلة ونستحضر الكثير من الأرقام التي تشير إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية العربية. ولعل الإشارة إلى تراجع أسعار أسهم العديد من المصارف العربية الرائدة، وللمرى الأولى في تاريخها مؤشر قوي إلى صحة ما نذهب إليه.
لقد آن الأوان كي يصحو العرب من غفوتهم ويعالجوا أوضاعهم قبل أن تباغتهم عواصف أزمات يعجزون عن مواجهتها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2246 - الأربعاء 29 أكتوبر 2008م الموافق 28 شوال 1429هـ