العدد 1618 - الجمعة 09 فبراير 2007م الموافق 21 محرم 1428هـ

«أوباكاليبتو» العراق!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

فيلمٌ دامٍ بمعنى الكلمة، للمخرج الشهير ميل جيبسون، مدّته ساعتان وربع الساعة. مظاهر العنف والقتل والدماء تسيطر على غالب لقطاته، حتى إن الساعة الأخيرة من الفيلم كلها مطاردةٌ وقتلٌ وتصويبٌ بالسهام وبقرٌ للبطون بالخناجر المدبّبة، وقطعٌ للرؤوس بالسيوف ورميها لتتدحرج من فوق سلالم المعابد العالية.

الفيلم يبدأ بكلمةٍ بديعةٍ للمؤرخ الشهير ويل ديورانت: «الحضارة العظيمة لا يمكن أن يهزمها عدوٌ من الخارج إلاّ إذا دمّرت نفسها من الداخل». وهي كلمةٌ توجز مراحل طويلة من التاريخ في سطرين فقط، وتلخّص اللحظات الأخيرة في حياة الحضارات المتهالكة التي أشرفت على الرحيل انتحارا أو تحت أحذية الغزاة.

جيبسون كان يحكي قصة الأيام الأخيرة من «حضارة المايا» العظيمة، إذ ساد الانقسام الداخلي والتقاتل بين قبائل الهنود الحمر التي تتبادل الغارات والسلب والنهب، واسترقاق النساء واستعباد الرجال للعمل في المحاجر وقَطْعِ الأحجار الكبيرة وتسيير عجلة الإنتاج البدائية.

يذوب قلبك وأنت تشاهد صفوف الأسرى في رحلة الإذلال والقهر؛ أو طوابير المستعبَدين وقد غطّت وجوههم طبقاتٌ من الطين والأوساخ حتى غيّرت سحناتهم؛ ويذوب أكثر وأنت ترى مناظر القتل حيث تُسترخص حياة البشر، وتزهق الأرواح في طرفة عين على أيدي الجبابرة وعتاة البشر.

أصدقكم القول، منذ البداية بدأ عقلي يترجم الفيلم إلى واقعنا العربي، بدءا من كلمة ديورانت التي هزّتني من الأعماق. وهكذا سيطر المشهد العراقي المأسوي على كل تفكيري. فما تراه في الفيلم من مشاهد دمويةٍ فظيعةٍ، تراه في نشرات الأخبار اليومية صباح مساء. وإذا كنتَ تعمل في المجال الإعلامي وتشاهد ما تبثه وكالات الأنباء العالمية من صورٍ مرعبة، هي أضعاف ما تبثه الفضائيات، فإنك لن تجد مهربا من إسقاط الفيلم على الواقع العراقي الحزين.

سيُفاجأ المشاهد أن لغة الفيلم ليست الانجليزية أو الفرنسية أو الصينية أو حتى الهندية... وإنما هي لغة «المايا» الأصلية التي لم تعد مستخدمة إلاّ على نطاق محدود في أميركا اللاتينية والمكسيك. وسيستغرب أكثر أن يعرف أن أكثرية الممثلين ليسوا محترفين، وإنما هم من الناس العاديين الذين استُقدِموا للتمثيل وأداء الأدوار لأول مرة، فأجادوا وأبدعوا إلى درجة أن تتصور أنهم من أكبر نجوم هوليوود المحترفين.

جيبسون له رؤيته الخاصة طبعا، التي يريد أن يوصلها إلى المشاهد أينما كان، وأعتقد أن المشاهدين في مختلف مناطق العالم ستكون رؤيتهم أقرب لرؤيته إلاّ في المنطقة العربية. هذا ما حصل معي، وربما حصل للكثيرين. فقبل دخول الفيلم عصر الاثنين الماضي، كنت مشبعا برؤية صور جثث العراقيين الذين سقطوا في تفجيرٍ بأحد أحياء بغداد الفقيرة في تفجير انتحاري. وعندما خرجت من الفيلم في المساء كانت تنتظرني صورُ تفجيرٍ دموي عبَثي آخر، وما خلفه من ضحايا بالعشرات تناثرت أشلاؤهم في الشوارع الحزينة.

اللقطة الأخيرة في الفيلم تكون بعودة الشاب الهندي الأحمر لإنقاذ زوجته وطفليه من مغارةٍ كالجُبّ، ولم يكن أمامه من خيارٍ وهو ينظر إلى سفن الغزاة الأسبان على الشاطئ، إلاّ أن يرجع إلى داخل الغابة بحثا عن طريق جديد بعد كل هذا الخراب.

المشاهد يخرج من فيلم «أوباكاليبتو» وأعصابه متوترةٌ بتأثير هذا الضخّ الهائل من المشاهد الدموية، تُرى... كل هذا العنف يختزنه البشر؟ أي بشرٍ هؤلاء؟

السؤال لا ينتظر إجابة وأنت ترى ما يجري في العراق.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1618 - الجمعة 09 فبراير 2007م الموافق 21 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً