العدد 2246 - الأربعاء 29 أكتوبر 2008م الموافق 28 شوال 1429هـ

المثقف كائن يبيض!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

من هو المثقف؟!

وما هي وظيفة المثقف؟!

وهل من الممكن أن نجد مثقفا بلا رسالة؟!

عادة ما تبرز مثل تلك الأسئلة الكبرى حينما تستبد حاجة المجتمعات إلى نخبة ترشدها وتوعيها بأهمية المتغيرات والتحولات التاريخية التي تمر بها، وأن ترسم لها خريطة طريق نقدية نحو استيعابها، وأن تحدد لها النماذج والقنوات الأمثل للتعامل معها من باب تعريف المصلحة العامة والقيم المعنوية الكبرى الكافلة لتحقيق الحرية والمساواة والتفاهم المشترك، ولكن هل من الممكن أن يخرج المثقف عن مثل ذلك الدور الرسالي المتعارف عليه، وأن ينزع عن نفسه عباءته «الإنتلجنسية» ويتخلى عن أدواره الحضارية والروحية الكبرى المفترضة؟!

بالنسبة إلى الباحث المرموق محمد جمال باروت كما جاء في كتابه الموسوم «الدولة والنهضة والحداثة... مراجعات نقدية»، فقد تناول الباحث في مقال له تحت عنوان «الصورة الانتلجنسوية للمثقف من الإشعاع إلى الانحلال» جدلية مفهوم «المثقف» وما يثيره من مضامين عديدة من بينها نماذج أولية تتعلق بوظيفة المثقف، والتي كتب حولها باروت «إذا ما كان ممكنا تعريف المثقف بنمط إنتاجه الخاص، فإنه سيكون ممكنا القول إنه ذاك الذي يشتغل في الأفكار وبواسطتها ولأجلها، أي كل من يزاول نمط الإنتاج الذهني»، ومن ثم عرج على مفهوم «المثقف التقني» وهو الذي «ينحصر نمط إنتاجه الذهني بمهنته العلمية أو اختصاصه المحدد»، وانتقد في الوقت ذاته ظاهرة سائدة بين النخب والمثقفين أطلق عليها المفكر الراحل إدوارد سعيد مصطلح «غيتو التخصص»، إذ ذكر حولها المؤلف «سرت عبادة التخصص حتى في علوم تفترض طبيعتها التواصل ما بين شبكات منهجية متعددة ومركبة مثل علم السياسة، الذي يرى البعض أن لا شأن له بالواقعة السياسية كواقعة اجتماعية، فهذه الأخيرة من اختصاص عالم الاجتماع»، ويبين الكاتب بأن المثقف الحقيقي لا ينبغي له أن ينحصر دوره وأفقه ضمن حدود تخصصه وحقله ومجاله المحدد»!

ومن ثم يتجه باروت بعدها للفصل ما بين «المثقف التقني» و«المثقف الانتلجنسوي»، والأخير هو الذي يجسد الدور الحقيقي والفعلي للمثقف صاحب الرسالة والغاية التاريخية المتصادمة مع فكرة «نهاية المثقف» المروج لها في أوساط ما بعد الحداثة، والتي ساهمت في «فكفكة الصفة «الانتلجنسوية» للمثقف»، وهو يشير إلى حقيقة تاريخية تبين أنه «ليس التأهيل العلمي الذي يشكل محور مفهوم المثقف التقني شرطا للانتلجنسوية، وهو ما يفسر أن الحركة الشعبوية الروسية التي صاغت لأول مرة في نهايات القرن التاسع عشر مفهوم «الانتلجنسيا» كانت تضم أشباه متعلمين»، وهو بالتالي يرى أن المفهوم الانتلجنسي للمثقف يتكشف عبر السعي والانطلاق من خلال «معارضة الواقع السائد ومحاولة تغييره ثوريا انطلاقا من مصالح :»المذلين المهانين»، وليس من منظور الحاجات والمتطلبات الذاتية والفئوية الضيقة»، وهو ما يخالف الصورة الفرنسية للمثقف «كلب الحراسة» الذي يسعى للدفاع عن وضع القائم وتبريره، فالمثقف منوط به ممارسة النقد الجذري وأن يكون مشبعا بمفهوم المسئولية وأخلاقياتها كما أنه يستشهد بادغار موران الذي يرى أنه من الضروري على المثقف أن يكون متجاوزا لـ «حقله التطبيقي التقني أو المختص ليعلن أفكارا ذات قيمة مدنية أو اجتماعية أو سياسية».

ويشير الباحث إلى أن النمط الانتلجنسوي الحديث أو المثقف الرسولي قد أصبح أكثر عرضة للاستهداف والتقلص في مرحلة ما بعد الحرب الباردة من حيث طغيان نظرية «نهاية المثقف»، وبداية «تشظي المعنى وانحلال مفاهيم الغائية أو الغرضية الكلية التي كانت التاريخانيات أكمل تعبير عنها»، وهو ما كان المثقف يستمد صورته الأساسية من مركزيتها، ويسلط الضوء على صعود «المثقف التقني» أو «ألمثقف الخبير» و«المثقف المخبر» و «بيروقراطي معرفة» وغيرهم ممن يضعوا المعرفة في خدمة صاحب القرار والزبون، وهو ما يعد انقلابا جذريا على وضعية وظيفة المثقف التي «تتخطى باستمرار وظيفة المختص أو الخبير أو العالم» كما أن دوره يتألق في «مكافحة الضغوطات التي تدفع لتحويله إلى خبير أو مجرد كاتب» وتحول بينه وبين انخراطه «في قضايا العالم وتناقضاته»!

ولكن ماذا عن أثر ووقع تلك الاصطلاحات الخاصة بأدوار المثقف مثل «المثقف الانتلجنسوي» و«المثقف التقني» أو «كلب الحراسة» أو «بيروقراطي المعرفة» وغيرها في توصيف وتحليل مشاهد النخبة المثقفة في واقعنا المحلي، وفي ميادين الصحافة الأكثر التصاقا بمختلف فئات الشعب؟!

تتعدد في مشهدنا المحلي والصحافي أنواع المثقفين في حين يندر بشدة وكالعادة المثقف الانتلجنسوي مع بروز أنماط متنوعة من «بيروقراطيي المعرفة» و«كلاب الحراسة» و «المثقفين التقنيين» الذين هم على استعداد للتضحية لا بمبادئ تخصصاتهم وأبسط القيم والأخلاق في سبيل افتداء مخططات أصحاب النفوذ الجهنمية، بل هنالك شيوع لابد منه لصنف رخيص ورديء جدا من المثقفين، ومثل هذا الصنف أطلق دعوة مفتوحة للجميع وبرر إمكان أن يقتصر تعريف المثقف فقط على «الكائن الذي يبيض»، أو هو الكائن الذي يوزع بيضاته على جميع سلال وصحون وكفوف وأحضان أصحاب السلطة والنفوذ والوجاهة والحظوة في المجتمع عسى أن ينل بذلك تفخيما ومباركة وتشريفا، حتى وإن كان هذا الكائن من الصنف المستورد والمهجن الذي أعطي من حقنة «عذاري التي تسقي البعيد وتخلي القريب»!

إن هذا المثقف/ الدجاجة يبدو كما لو أن الله خلق له ألف مبيض ومبيض متضخم ومتهدل بالنسبة لمن يحصي عدد بيضاته والسلال الصحافية الموزعة لها، إلا أنه من الطبيعي أن يجد أن هذا الصنف الرخيص والبياض من المثقفين على رغم قدراته «المبايضية» والتفريخية الهائلة تلك المتحررة من أية مسئولية أو وازع قيمي وهو لا يتبرع قط ولو ببيضة في سلال المحرومين والمهمشين من غالبية فئات وطوائف الشعب وهم الذين عركتهم سياسات ومخططات من يبيض لهم أشد ما يكون عليه العرك!

ولعل ما يتميز به هذا النوع من المثقف البياض المستورد والنابغ أخيرا في منابر الصحافة والإعلام والتحليل بمختلف تلاوينه، ولعل ما يبز به دجاجاتنا ودجاجاتكم المحترمات والمحتشمات يا أعزائنا القراء، هو أن لديه قدرة فائقة وتهريجية على تنويع أشكال وأحجام بيضاته في مختلف السلال الصحافية، وسلال كبار المسئولين والوجهاء التي يبدو كما لو أنها صممت ووضعت لعيون بيضاته الفاقعة تلك!

فهذا المثقف البياض تجده يبيض بشكل مستمر إما بيضة اقتصادية تارة، أو بيضة اجتماعية، أو بيضة فلسفية وأدبية، ويقذف كثيرا من البيض السياسي «المارج»، وهنالك قدر لا بأس منه من البيض الردحي المتفجر والطائش كما لو أنه حبوب فشار، وهو يبيض أيضا حتى بيض طائفي لزوم الحاجة والمرحلة والسلة التشطيرية الذهبية الأكثر دفئا!

وإن كان الفنان الخليجي الكبير عبدالحسين عبدالرضا قد تحدث في مسرحية «على هامان يا فرعون» عن «الدياية بألف ناقة»، فإن هذا المثقف البياض يجسدها بشكل آخر، فهو دجاجة ناطقة وكاتبة وبياضة بألف جريدة ومنبر إعلامي ومنبر «رزة» بانتظاره وانتظار رخصه، وذلك رغما عن كون «الدياي خداي» وما يشير إليه المأثور الشعبي الظريف «يا دياية بيضك ما يكافي غيضك»، فهذا المثقف/ الدجاجة قد كسح وأشبع الظرف والساحات غيضا و«نقنقة» صاخبة فاقت بكثير القيمة الشكلية والمعنوية والغذائية لفائض بيضاته التافهة والفارغة في سلال المسئولين والوجهاء وأصحاب النفوذ في البلاد!

فهل هذه ما بعد نهاية المثقف وعهد المثقف البياض الذي تغار منه الدجاجات؟!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2246 - الأربعاء 29 أكتوبر 2008م الموافق 28 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً