تحت عنوان «هذه حكاية التوسع الأميركي وليس العدوان الروسي» كتب الصحافي ليسون ميلن، في صحيفة «الجارديان» البريطانية في 14 أغسطس/ آب 2008 مقالته بشأن حرب القوقاز، التي اشتعلت أتونها بين البلدين الجارين روسيا وجورجيا في الفترة الأخيرة، يقول ميلن: «إن الحرب الدامية المؤلمة التي استمرت قرابة ستة أيام بلياليها في القوقاز، كشفت من دون أدنى شك الباب أمام مختلف صنوف النفاق السياسي بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين».
ويضيف الكاتب «أنه في نفس الوقت الذي استمرت فيه أبواق الدعاية الأميركية والغربية تكيل الاتهام تلو الآخر ضد «الأمبريالية الروسية» التي اعتدت من غير مبررات على دولة جارة ذات سيادة، تصاعدت لهجة التحدي من قبل الرئيس الأميركي جورج بوش ونائبه ديك شيني، والتي وصلت إلى حد تهديد موسكو بـ «العقاب الصارم» على ما فعلته ضد دولة جارة وتهديد حكومة منتخبة من الشعب الجورجي.
وتساءل الكاتب «كيف يمكن للإدارة الأميركية وحكومات الغرب، التي تقف اليوم إلى جانب جورجيا، الدولة التي بدأت بحرب القوقاز، ضد التدخل الروسي الذي قيل بحسب المسئولين الروس، إنه كان ضروريا من أجل حماية المواطنين الروس في أوستيتيا الجنوبية وإبخازيا، من مجازر وتطهير عرقي على أيدي القوات المسلحة الجورجية التي اجتاحت الأراضي الأوسيتية والإبخازية بذريعة استعادة النظام الدستوري، أن تسمح لنفسها بتجاهل احتلال دولة العراق ذات السيادة في العام 2003، تحت مبررات واهية ومزاعم ملفقة وبتكاليف بشرية فاقت التوقعات؟، وهي ذات الحكومات التي تغاضت وحاولت أن تعيق التوصل إلى حلول موجبة لوقف الحرب، عندما قامت «إسرائيل» بتدمير البنية التحتية في لبنان خلال حرب يوليو/ تموز في العام 2006، وقتلت خلالها أكثر من 1000 إنسان، انتقاما لأسر أو قتل 5 من جنودها في جنوب لبنان».
ويضيف «أن القوات الجورجية ارتكبت في اجتياحها الأراضي الأوستيتية أخطاء فادحة وفضائع ضد السكان المدنيين، ولكن من دون أن تتعرض الحكومة الجورجية، إلى أدنى إدانة أو انتقاد من جانب الولايات المتحدة أو حكومات الغرب».
أن تقول الولايات المتحدة الأميركية، التي تتزعم اليوم الحملة الدبلوماسية الدولية المسعورة، ضد ما أسمته بـ «العدوان الروسي» الذي يمكن أن يمهد لإسقاط حكومة منتخبة من الشعب الجورجي، إنها ليست دولة معادية لأحد في العالم، بقدر ما هي دولة مسالمة وتسعى بكل ما أتيح لها من قوة للدفاع عن الديمقراطية والحريات في العالم برمته، فإن ذلك يبقى في حقيقة الأمر نفاقا سياسيّا، لم يعد ينطلي على أحد، فهي تسعى من خلال تلك الحملة إلى تشويه صورة روسيا سياسيا وتدمير قدرتها العسكرية، وبالتالي تمكينها من محاولة نشر قواعد عسكرية أميركية منافسة وموازية، وصولا إلى فرض هيمنة كاملة على كل ثروات القوقاز النفطية، والتي انكشفت من خلالها كل عورات الولايات المتحدة الأميركية، السياسية والاقتصادية، وأساليب غرورها وخداعها وتدخلاتها السافرة في شئون الدول الأخرى ذات السيادة والتي تتمتع بأنظمة ديمقراطية منتخبة من شعوبها.
لقد اتخذت الولايات المتحدة الأميركية، شعار حماية الديمقراطية والدفاع عن الحريات في العالم، فقط لمجرد المظاهر الإعلامية الكاذبة والترويج لبضائعها السياسية الفاسدة وليس لذلك أية علاقة جدية بشأن حماية الديمقراطية أو الحريات أو حتى الدفاع عن حكومات الدول الحليفة والمقربة.
منذ عدة عقود مضت، ظلت الولايات المتحدة الأميركية تمارس أنواع النفاق السياسي، والتدخلات المباشرة وغير المباشر في شئون الدول ذات السيادة والمنتخبة من قبل شعوبها، وبصورة خاصة تلك الدول الواقعة في حديقتها الخلفية، من أجل تعزيز مصالحها فقط وليس كما تدعي هي من أن حماية الشعوب ونشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان من أهم واجباتها الإنسانية، ففي كتاب «ملفات هايتي - أسرار الحرب» للمؤلف الأميركي «نعوم تشومسكي» الذي استعرض خلاله المؤلف الكثير من محطات الصراع والحروب العدوانية الكبيرة والصغيرة، تتضح حقيقة تعطش الولايات المتحدة الأميركية للحرب ضد دول ذات سيادة وبشكل متهور وكارثي، يقول الكتاب «إن المشرعين الأميركيين، الذين تبنوا أفكار فرض المصالح والهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية الأميركية في الخارج، طالبوا الرؤساء الأميركيين المتعاقبين على حكم البلاد، بضرورة العمل الجاد والحقيقي على إنجاز مهام التدخل المباشر أو غير المباشر، من أجل الهيمنة والاستفراد بمقدرات الشعوب الأخرى، وخاصة في الدول التي لم تبلغ بعد مستوى التطور، ولكنهم في نفس الوقت عارضوا حدوث أية خسائر كبيرة في أرواح الجنود الأميركيين، أو أية تكاليف مادية قد تتكبدها القوات المسلحة الأميركية في حروب التوسع والهيمنة، كتلك التي خسرتها، في الحرب الفيتنامية الطاحنة، (1961 - 1975) والتي أزهقت فيها أرواح أكثر من 60 ألف جندي أميركي في جنوب فيتنام.
لقد خاضت الولايات المتحدة الأميركية، من دون هوادة، عدة حروب طاحنة بعد الحرب الخاسرة في جنوب فيتنام، كان من أبرزها حروب الجوار في أميركا اللاتينية وبحر الكاريبي، وهي المنطقة المعروفة بـ «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة الأميركية، لأنه توجد للولايات المتحدة مصالح شتى سياسية واقتصادية وأمنية هناك، يتوجب عليها القتال من أجل حمايتها والدفاع عنها، ومن هنا اتخذت تدخلات الدولة الجارة العظمى، عدة أنواع تراوحت ما بين التهديدات السياسية والعقوبات الاقتصادية والتدخلات العسكرية المباشرة في شئونها الداخلية. ففي العام 1961، قامت القوات المسلحة الأميركية بعملية إنزال عسكرية غاشمة في خليج الخنازير بشأن جزيرة كوبا، وتعاونت مع بعض المليشيات الكوبية المسلحة المعارضة لنظام حكم الرئيس فيدل كاسترو، من المنفيين في الولايات المتحدة الأميركية، وكان الهدف من هذه العملية هو إسقاط النظام السياسي التقدمي في كوبا بقيادة فيدل كاسترو الذي وصل إلى سدة الحكم من خلال ثورة وطنية مسلحة، لم تعترف بها أميركا، بل تصدت لنجاحاتها بشتى الوسائل، وكما شكلت حرب فيتنام «عقدة ضمير» لدى الأميركيين، بسبب فضاعة أهوالها، كانت أيضا «العقدة الكوبية» و»عقدة» النظام في شيلي بقيادة الرئيس سلفادور الليندي اليساري التقدمي، الذي سرعان ما أطاحت به وكالة المخابرات المركزية الأميركية في العام 1974، من خلال انقلاب دموي بقيادة الدكتاتور في الجيش الجنرال بينوشيه، فكانت عملية التدخل الأميركي الفاشلة في خليج الخنازير، درسا مؤلما للإدارة الأميركية التي تجرعت كأس الهزيمة القاسية في الكاريبي، ولم تعد التفكير مرة ثانية بغزو الجزيرة الكوبية، بل إنها اكتفت بفرض بعض أنواع الحصار، وبعض المحاولات الخاصة الفاشلة لاغتيال الرئيس فيدل كاسترو، وقد قالت الإدارة الأميركية إنها عندما أقدمت على حصار جزيرة كوبا، إنما هي كانت تريد حصار الشيوعية التي أخذت تقترب من محيطها الإقليمي. ففي العام 1965، أمر الرئيس الأميركي ليندون جونسن بإرسال نحو 23 ألف جندي، إلى جمهورية الدومينيكان، لأن وكالة المخابرات المركزية شعرت بإمكان ظهور نظام شيوعي مماثل لنظام الرئيس فيدل كاسترو في الدومينيكان، وفي وقت لاحق، أقر الرئيس رونالد ريغان، بغزو القوات الأميركية، جزيرة جرينادا في العام 1983، حيث كان موريس بيشوب، قد أطاح في العام 1979، بالحكومة المنتخبة هناك، وقد كان بيشوب أحد المعجبين بالرئيس كاسترو، وكان قد حكم البلاد على رأس حزبه مدة أربع سنوات كاملة، ثم أصبح بعدها سياسيّا معاديا لأنصار كاسترو داخل الحزب الحاكم، وقتل في العام 1983، لكن بعدها ببضعة أيام، كانت هناك طلائع ستة ألاف جندي أميركي يتقدمون لغزو الجزيرة الصغيرة، ولكنهم على رغم وحشية أساليبهم ضد السكان، فإنهم واجهوا مقاومة شرسة، استمرت أكثر من عشرة أيام، وتكبدت خلالها القوات الأميركية مقتل عشرة جنود، لكن المسئولين في البيت الأبيض نظروا إليها على إنها كانت انتصارا مؤزرا على الشيوعية وأنصارها في أميركا اللاتينية والكاريبي، وإذ ذاك تم التركيز بشكل مكثف، من قبل الرئيس رونالد ريغان، على محاربة دول هذه المنطقة، وخصوصا جمهورية بنما ونيكاراغوا والسلفادور، فمنذ أوائل العام 1983، بدأت وكالة المخابرات المركزية الأميركية، المضي قدما في حرب الكونترا ضد السندانيين في نيكاراغوا، فقامت بتسليح أكثر من 12 ألف جندي للقيام بحرب دموية سرية لإسقاط حكم السندانيين اليساري التقدمي، من أجل إعادة النفوذ الأميركي القوي في ذلك البلد، الذي خسرته برحيل عائلة سوموزا، التي حكمت نيكاراغوا طوال نصف قرن من الزمن بدكتاتورية مطلقة، كما إنها قامت في السلفادور بدور قذر عندما حاولت منع وصول ثوار حرب العصابات اليسارية إلى سدة الحكم، وقدمت العون إلى الدكتاتور نابليون دورانة، ماديا وعسكريا، حيث استخدم الجيش حينها (فرق الموت) بغير معرفة البيت الأبيض ولكن بمساعدته، وقتلت الدكتاتورية العسكرية في السلفادور أكثر من 70 ألف إنسان.
وفي ما بعد، قامت الولايات المتحدة الأميركية، بغزو بنما في العام 1989، من أجل الإطاحة بالرئيس مانويل نوريغا، حليفها السابق والذي كان يتعامل في الإتجار بالمخدرات التي تقوم بلاده بتصديرها إلى الولايات المتحدة الأميركية، ثم تحولت بعد ذلك ضده، عندما استخدمت كافة إمكانيات بنما في تجارة المخدرات، وتحولت البلاد بعدها لتصبح الطريق الرئيسي في تجارة المخدرات القادمة من كولومبيا إلى أسواق الولايات المتحدة الأميركية.
وقامت الولايات المتحدة الأميركية، بغزو دولة هايتي، بذريعة حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان في تلك الجزيرة الصغيرة، ولتعيد بعدها الرئيس الأب جان برتراند أرستيد المنتخب من شعب هايتي عام 1991، ثم أطاحت به الطغمة الحاكمة بقيادة الجنرال سيدراس، إذ إن بقاء الرئيس أريستد يضمن بقاء النفوذ الأميركي في البلاد.
وفي أواخر سنوات القرن الماضي، شاركت القوات المسلحة الأميركية بقوة إلى جانب جيوش حلف شمال الأطلسي في التدخل العسكري المباشر ضد جمهورية الصرب في نزاعاتها الداخلية، وبعدها مباشرة قامت بغزو أفغانستان بذريعة محاربة منظمة القاعدة والإرهاب، ثم العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل يهدد بها الولايات المتحدة الأميركية والعالم.
إقرأ أيضا لـ "هاني الريس"العدد 2246 - الأربعاء 29 أكتوبر 2008م الموافق 28 شوال 1429هـ