يبرز التعامل العادي مع التنظيم الحكومي للأسواق تمايزا حادا بين السوق العادية للسلع والخدمات وبين نشاطات التعبير والكتابة وممارسة المعتقدات الدينية - التي أطلق عليها اختصارا «سوق الأفكار».
ما هي وجهة النظر العامة التي أسعى إلى بحثها؟ هي أن الأنظمة الحكومية مرغوبة في سوق السلع ولكنها غير مرغوبة في سوق الأفكار وينبغي أن تكون محدودة للغاية. في سوق السلع تعتبر الحكومة عموما قادرة تنظيميا ولديها دافعية ملائمة. أما في سوق الأفكار فالموقف مختلف تماما، فإذا حاولت الحكومة التدخل تنظيميا في سوق الأفكار فلن تكون كفؤة لذلك وستكون دوافعها سيئة عموما بحيث حتى لو أنها نجحت في تحقيق ما تسعى لإنجازه فإن النتائج لن تكون مرغوبة.
لماذا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو؟ ربما يعود ذلك جزئيا إلى حقيقة أن القناعة بسوق حرة للأفكار ليست لها الجذور نفسها مثل القناعة بقيمة التجارة الحرة في السلع، نظرا إلى الرأي القائل إن سوقا حرة للأفكار ضرورية لإدامة المؤسسات الديمقراطية، ولأسباب أخرى أيضا في اعتقادي، فقد أبدى المثقفون ميلا لتمجيد سوق الأفكار والتقليل من شأن سوق السلع.
ولكن لندع جانبا مسألة الأهمية النسبية لكلا السوقين؛ فاختلاف وجهات النظر بشأن دور الحكومة في هذين السوقين هو حقا دور خارج عن المألوف تماما ويتطلب تفسيرا. لا يكفي مجرد القول بضرورة استبعاد الحكومة من مجال نشاط معين لأنه حيوي لحياة مجتمعنا. التناقض الظاهري هو أن تدخل الحكومة الشديد الضرر في مجالٍ ما يصبح نافعا في مجال آخر، ويصبح التناقض باعثا على مزيد من الدهشة عندما نلاحظ أننا نجد في أيامنا هذه أن أشد من يضغطون عادة لتوسيع التنظيم الحكومي إلى أسواق أخرى هم الأشد رغبة في تطبيق مشدد للإجراءات المقيدة للتنظيم الحكومي في سوق الأفكار!
ما هو تفسير هذا التناقض؟ أود أن أسمي الأشياء بأسمائها فأقول إن سوق الأفكار هي التي يعتبرها المفكر مهنة له. وتفسير الظاهرة يرجع إلى المصلحة الذاتية والمنفعة الذاتية. فالمصلحة الذاتية تقود المفكرين إلى تضخيم أهمية سوقهم، بينما تنظيم الآخرين يبدو طبيعيا وخصوصا أن كثيرا من المفكرين يعتبرون أنفسهم مناطين بمهمة التنظيم. ولكن المصلحة الذاتية مقرونة بالمنفعة الذاتية يتضافران لضمان أنه، بينما يجري تنظيم الآخرين، فإن التنظيم ينبغي ألا يطبق بحقهم.
لا أعتقد بصحة هذا التمايز بين سوق السلع وسوق الأفكار. ليس هناك فرق جوهري بين هاتين السوقين، وعند اتخاذ قرار عن السياسة العامة إزاءهما يتعين علينا أن نأخذ في الحسبان الاعتبارات ذاتها لكليهما. وعندما أقول إنه ينبغي أخذ الاعتبارات نفسها في الحسبان فلا أعني بذلك أن السياسة العامة ينبغي أن تكون هي ذاتها في جميع الأسواق. فالمقومات الخاصة لكل سوق تعطي وزنا مختلفا للعوامل نفسها ما يجعل الترتيبات الاجتماعية الملائمة تختلف وفقا لذلك. قد لا يكون من المعقول العمل بالترتيبات القانونية ذاتها التي تحكم صناعة الصابون والإسكان والسيارات والنفط والكتب!
وجهة نظري هي أنه يتعين علينا استخدام (المقاربة) ذاتها لجميع الأسواق عندما نقرر سياسة عامة.
الواقع أننا إذا قمنا بذلك واستخدمنا لسوق الأفكار ذات المقاربة التي استهوت الاقتصاديين في سوق السلع فمن الواضح أن ذلك يدعم حجة التدخل الحكومي في سوق الأفكار بشكل أكثر قوة مما عليه الحال عموما في سوق السلع. وكمثال على ذلك، فإن الاقتصاديين يدعون عادة إلى التدخل الحكومي، والذي قد يشمل أنظمة حكومية مباشرة، عندما لا تعمل السوق بطريقة صحيحة - أي عندما يحدث ما يُعرف عادة بتأثيرات الجوار أو تشكل فائض أو «العوامل الخارجية» إذا ما كان لنا أن نستخدم هذه العبارة المشئومة.
لا أشك في أن الدراسة المفصلة ستكشف حالات أيدت فيها مجموعات من العاملين في سوق الأفكار التنظيم الحكومي وتحديد المنافسة عندما يكون من شأنها زيادة دخولهم، تماما كما وجدنا السلوكات ذاتها في سوق السلع. ولكن الاهتمام بالاحتكار سيكون على الأرجح أقل في سوق الأفكار.
هناك سياسة عامة لمفهوم التنظيم، هي أن تحديد السوق يؤدي إلى خفض الطلب على خدمات المثقفين والمفكرين. ولكن لعل الأهم من ذلك هو أن الجمهور معني أكثر بالصراع بين الحقيقة والكذب أكثر من اهتمامه بالحقيقة نفسها. إن الطلب على خدمات المؤلفين وكتاب الخطابات، يعتمد إلى حد كبير على وجود جدال - ولكي يكون هناك جدال فمن الضروري ألا تنتصر الحقيقة وحدها!
مهما فكر المرء في الدوافع التي أدت إلى القبول العام للوضع الحالي يبقى هناك سؤال عن أي السياسات هي، في الواقع، أكثر ملاءمة. هذا يتطلب منا التوصل إلى بعض الاستنتاجات بشأن الطريقة التي ستؤدي بها الحكومة أية مهمات يعهد بها إليها.
لا أعتقد أنه سيكون بوسعنا تكوين حكم نستطيع الوثوق بصوابه ما لم نتخلّ عن التناقض الحالي في النظرة إلى أداء الحكومة في السوقين وتبني موقف أكثر اتساقا. يتعين علينا أن نقرر فيما إذا كانت الحكومة قليلة الكفاءة كما يفترض عادة في سوق الأفكار، أو ما إذا كانت جيدة الكفاءة كما يفترض عادة في سوق السلع. يستطيع المرء، طبعا، أن يتبنى موقفا وسطا - أي حكومة لا هي رديئة وقليلة الكفاءة كما يفترض في إحدى السوقين ولا هي كفؤة ومثلى كما يفترض في السوق الأخرى.
وأتطلع إلى معرفة أي من الخيارات في وجهات النظر هذه ستكون موضع تأييد زملائي في المهنة الاقتصادية.
* أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو. وهو حائز جائزة نوبل للاقتصاد العام 1991. والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 1618 - الجمعة 09 فبراير 2007م الموافق 21 محرم 1428هـ