يخطط الأميركيون للبقاء طويلا في المنطقة، سواء أكان ذلك بتعزيز قواعدهم من أجل السيطرة على الأوضاع الأمنية المتحركة تحت شعار الحرب ضد الإرهاب، في خطة متعددة الأوجه تتضمن مواجهة الشعوب المستضعفة، كما في حركة التدخل في الصومال والاستفادة من موقع اليمن الاستراتيجي في عملية تطويق عسكري يستهدف ـ في امتداداته ـ إرباك العلاقات الأمنية والسياسية بين دول المنطقة وتخويف بعضها مما يسمونه الخطر الإيراني، أو في إثارة دول عربية أخرى في مسألة الدور الإيراني أمام الدور العربي... ومن اللافت أن قيادة حلف الأطلسي التي تعيش مشكلة كبرى في تمويل عملياتها، ولاسيما في أفغانستان، زارت المنطقة الخليجية لتطرح على بعض دولها الدخول في الحلف للحصول على التمويل من هذه الدول الخليجية. وتحدث الإعلام قبل مدة عن زيارة الوزيرة رايس موضحا أنها جاءت إلى المنطقة لتحصل على تمويل خليجي للخطة الأميركية التي أطلقها الرئيس بوش في العراق مستبقا احتمال امتناع الكونغرس من تمويلها. وذلك من خلال بعض الضغوط التي اعتادت الإدارات الأميركية المتعاقبة على ممارستها على بعض الدول لتمويل مشروعاتها في المنطقة...
إن الرئيس بوش يطلق بين وقت وآخر تهديده ضد إيران من جهة باتهامها بنشاط معادٍ ضد الجنود الأميركيين ويتحدث بريبةـ تختزن الرفض ـ عن عزم إيران على تعزيز علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع العراق، وهكذا نرى الموقف الأميركي المتحفظ عن نشوء علاقات طبيعية بين سورية والعراق وقيام تعاون أمني واقتصادي بين البلدين، لأن أميركا لا تشجع أية علاقات متقدمة بين العراق وجيرانه...
ومن اللافت أن تصريح الرئيس الأميركي الذي يخطط لقتل شباب المقاومة الإسلامية في لبنان ويهدد الإيرانيين في العراق، يتحدث عن المشكلات التي حدثت أخيرا في لبنان في صراع المعارضة والسلطة من دون تدقيق في واقعية الحوادث بطريقة موضوعية وقضائية، بل كان يتخذ لنفسه صفة الفريق الداخلي في اتهام الآخرين بافتعال الحوادث، لأن السياسة الأميركية تتحرك في لبنان باعتباره الساحة التي يمكن من خلالها أن تمارس نفوذها في مشروعاتها السياسية والأمنية في المنطقة الهادفة إلى الحفاظ على أمن «إسرائيل» من جهة ـ وإلى حماية احتلالها للعراق من جهة ـ وفي حربها ضد ما تسميه الإرهاب من جهة أخرى. وهذا ما نلاحظه في طريقة الإدارة الأميركية في الضغط على الداخل الفلسطيني بإثارة الصراع الداخلي وتحريك الحرب الأهلية من أجل إضعاف وإسقاط الحكومة الشرعية وإرباك المحاولات الساعية إلى تأليف حكومة الوحدة الوطنية التي قد تحل الكثير من المشكلات بين الفلسطينيين. ومن جانب آخر فقد أثارت أميركا التحفظ في مسألة إساءة استخدام «إسرائيل» القنابل العنقودية المستوردة من أميركا ضد اللبنانيين الذين لايزالون يعانون من النتائج المأسوية التي تصيب المدنيين باستشهاد بعضهم وجرح البعض الآخر وتعطيل الحركة الزراعية للمزارعين الذي يخشون من تفجيراتها في مزارعهم...
ولكن أميركا لم تحرك ساكنا ضد حليفتها العدوانية في استخدامها لليورانيوم المخصب في لبنان، بل إنها تستعد لبيعها القنابل الذكية التي ستستخدمها «إسرائيل» ضد اللبنانيين في حربها المقبلة التي يخطط لها المسئولون هناك من حكوميين وعسكريين، كما استخدمتها في حربها العدوانية في يوليو/ تموز، عندما أرسلت أميركا جسرا جويا مزودا بالقنابل الذكية التي ألقتها حليفتها «إسرائيل» على المدنيين اللبنانيين من الأطفال والنساء والشيوخ ودمرت مدنهم وقراهم وجسورهم...
إننا نريد للبنانيين أن يتذكروا الحرب الإسرائيلية التي شاركت أميركا في التخطيط لها من خلال إدارتها السياسية والعسكرية ليعرفوا ـ جيدا ـ أن المأساة التي تتمثل في كل الدمار الذي أصاب بلدهم كان دمارا أميركيا ـ إسرائيليا، وأن أميركا التي تعطي الحكومة اللبنانية الوعود بالمساعدات المالية هي التي أسقطت الاقتصاد اللبناني من خلال الحرب العدوانية التي خططت لها ونفذتها بيد «إسرائيل»، ولذلك فليست هناك أية فرصة لتحسين الأوضاع السياسية والأمنية، بل إنها تعمل من خلال تدخلها عربيا ومحليا على إطالة أمد الأزمة ومنع أيّ حل قد يأتي من أية مبادرة عربية أو محلية... لأن المطلوب في الخطة الأميركية في لبنان ألا يحصل اللبنانيون على أي نصر سياسي في مسألة التوازن الوطني بعد النصر العسكري ضد العدو الإسرائيلي... وهذا ما يساهم في سقوط كل حالات التفاؤل التي تظهر تارة وتختفي أخرى... إن الخطة هي تدمير لبنان سياسيا من دون الإفساح في المجال لتدميره أمنيا.
ومن جانب آخر، فإننا نحيي الاستشهادي المجاهد في العملية النوعية في إيلات ونقدر تضحيته الجهادية بنفسه في صرخة قوية لكل الذين يمارسون النـزال الدموي في غزه ليقول لهم إن القضية هي توجيه البنادق والمواقف إلى العدو المحتل لا إلى صدور الشعب الفلسطيني المنكوب سواء أكان من هذه الحركة أو تلك، ولاسيما أن الواقع الفلسطيني لا يملك أية سلطة أو أية حكومة لأن الاحتلال هو الذي يملك السلطة وهو الذي يمارس الحكومة في خططه وفي عدوانه وفي حصاره وفي اعتقالاته اليومية...
إننا نقول للجميع ليكن الصوت واحدا، لا صوت إلا صوت المعركة ولا بندقية إلا بندقية المقاومة؛ وليتحرك الجميع من أجل إنتاج الانتفاضة وإبداعها من جديد.
أما في العراق، فلايزال النـزف الدموي يتمثل في المجازر الوحشية في التفجيرات الانتحارية وفي القذائف العدوانية التي تطلق على الزائرين والمدنيين، ولاسيما في مناسبة عاشوراء التي كانت ثورة للحق وللحرية وللعزة والكرامة للناس جميعا، وانطلاقة في الواقع الإسلامي في حركة الإصلاح الشامل في الأمة الإسلامية من دون أن تكون لطائفة معينة أو فريق معين... ونقول لبعض المسئولين، ومنهم بعض علماء الدين الذين يتحدثون عن الجريمة في موقع عراقي معين ويغفلون عن الجريمة في موقع آخر تحت شعارات مذهبية للإثارة... إن عليهم أن يعرفوا أن المأساة تصيب العراقيين جميعا من السنة والشيعة، سواء في الاغتيالات أو في عملية التهجير أو غير ذلك، وإن عليهم ألا ينظروا إلى الأمور بعين واحدة، بل بعينين مفتوحتين وذهنية إسلامية وطنية واعية تنظر إلى الشعب كله بنظرة عادلة واحدة.
أما لبنان، فقد عاش تجربة الفتنة المحدودة التي كان البعض يخطط لتمتد في المنطقة الإسلامية ولاسيما في بيروت ثم تتطور إلى المنطقة المسيحية... إننا نهيب بالجميع أن يرحموا لبنان الذي يمثل في عناصره الثقافية والروحية وفي مناخ الحرية فيه درة المنطقة، فلا تسمحوا للاعبين الإقليميين أو الدوليين أن يحولوه إلى ساحة للخطوط السياسية في مشروعات الآخرين ولاسيما على مستوى المنطقة، حذار من فتنة إسلامية - إسلامية، ومن فتنة مسيحية - مسيحية، ومن فتنة تشمل لبنان لتدمر إنسانه الذي عاش المشكلة الاقتصادية والمأساة التهجيرية...
إننا ندعو القوى الأمنية والقضائية إلى أن تعاقب القتلة والمجرمين والمعتدين الذين أثاروا الفتنة حذرا من تحريك عملية الانتقام أو الثأر لأهل هذا القتيل أو ذاك.
إن سلامة البلد تكمن في أن تقف القوى الأمنية من جيش وقوى أمن ليكون دورها في حماية الوطن لا حماية هذا الفريق أو ذاك، ويتحرك القضاء المستقل الذي لا يخضع لأي ترغيب أو ترهيب... إن العدل هو أساس الملك، وعلى اللبنانيين جميعا أن يتقوا الله في أنفسهم وفي وطنهم، وأن يكونوا الواعين للقاعدة التي ترتكز عليها الأزمة، فهي لا ترتبط بالخط السني عقائديا ولا بالخط الشيعي عقائديا ولا بالخط المسيحي دينيا، بل إنها ترتبط بخلافات سياسية في الحكم وفي الحكومة وفي الميثاق أو الدستور، ما ينبغي أن يحركوه في ساحة المواطنة لا في ساحة المذهبية والطائفية...
أيها اللبنانيون: تمردوا بوعي وانفتاح على كل مثيري الفتنة، وراقبوا الله في الانفعال بالكلمات والخطابات التي تنطلق من دون تدقيق في الاتهامات، وفي الإثارات، إذا أردتم السلامة لهذا الوطن الصغير في حجمه الكبير وفي عناصره الحضارية التي لا نريد للتخلف أن يزحف إليها ليدمر قيمة هذا الوطن ومعناه.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1617 - الخميس 08 فبراير 2007م الموافق 20 محرم 1428هـ