توفي رفاعة الطهطاوي في العام 1873 في عهد الخديوي إسماعيل الذي اشتهر كسلفه الخديوي سعيد بالانفتاح والبذخ وتقليد الغرب والإنفاق غير المدروس الأمر الذي ورط خزانة الدولة المصرية بالديون وجعل البلاد هدفا للاستعمار. آنذاك كانت مصر تابعة شكليا للسلطنة العثمانية ولكنها نالت بعض الاستقلال السياسي بضمانات أوروبية أعطتها الدول الكبرى لأسرة محمد علي بعد انسحاب جيش إبراهيم باشا من بلاد الشام.
في الآستانة كانت السلطنة أيضا تعاني من مشكلات الديون والسباق مع الزمن بذريعة اللحاق بالغرب واكتساب المعارف التقنية والعسكرية منه لتدريب الجيش وجعله مؤهلا لمواجهة الحملات المتكررة التي تشنها روسيا القيصرية على الحدود.
أدى ضعف السلطنة إلى تقليص رقابة السلطان العثماني وأعطى فرصة زمنية للولاة لاتخاذ خطوات شبه استقلالية والتصرف بشئون ولايتهم بسياق لا يخضع كلية لإشراف الدولة وعاصمتها المركزية اسطنبول. وشكل هذا الضعف مظلة سياسية لدولة الباشا المصرية الصاعدة، ودولة «الباي» التونسية، وتلك الإمارة (المتصرفية) في جبل لبنان فاستفادت من ذاك الخلل لتنظيم شئونها الذاتية. وتحت ظل إدارات الحكم الذاتي الثلاث تشكلت نواة «النخبة العربية» المعاصرة وتأسس وعيها التاريخي في إطار انقسامات فئوية كانت محكومة بازدواجية الانتماء والهوية.
اسطنبول كانت مصدر المشكلة. فهي العاصمة ورأس الدولة ولكنها في الآن لم تعد قادرة على أخذ المهمات والقيام بواجباتها ودورها كما كان حالها في السابق. فالضعف أخذ يتفاقم ولم تنجح الحلول الفوقية في معالجة الأزمات ولم تعد تنفع تلك «الفرمانات» الإصلاحية في إنقاذ السلطنة من التفكك والضياع. مصر مثلا أخذت تتصرف باستقلال ذاتي وتتخذ قرارات مصيرية كبرى من نوع توقيع امتياز شق قناة السويس في 1854 ثم افتتاحها رسميا في العام 1869 الأمر الذي سرع من عملية احتلالها. وتونس أيضا أخذت تسلك خطوات إلى الأمام بالانفتاح على فرنسا وانجلترا وبالاستقلال عن السلطنة ودخلت في سباق مع الزمن لإدراك أوروبا في تطورها المدني وهذا ما عرضها لاحقا للاحتلال. وفي جبل لبنان أخذت المتصرفية تقيم علاقات خاصة مع الدول الأوروبية وبدأت تستعد للاستقلال رسميا عن السلطنة. وهذا ما فتح الطريق أمام القوات الأوروبية للتقدم والاكتساح.
وفي اليمن التي يمتاز بموقع استراتيجي في جنوب البحر الأحمر حصلت مناوشات مع العثمانيين فاضطرت السلطنة إلى إرسال جيشها وأعادت احتلال صنعاء في العام 1872 من دون أن يكون للحدث وقعه الكبير في تعديل موازين القوى الإقليمية. إذ عادت بريطانيا لاحقا إلى وضع يدها على باب المندب.
كل هذه التحولات الكبيرة والصغيرة حصلت في فضاء دولي أخذ يميل بقوة إلى نوع من الغلبة الأوروبية. فأوروبا آنذاك واصلت صعودها العمراني والمعرفي وفرضت سيطرتها على التجارة الدولية وتحولت دولها إلى قوى عسكرية حديثة التنظيم وتملك كثافة نيران لا تقوى الدويلات العثمانية المستقلة عن السلطنة على مواجهتها أو التصدي لأطماعها.
حصلت كل هذه المتغيرات في عهدي السلطان عبدالمجيد (رحل في 1860) وشقيقه السلطان عبدالعزيز (عزل بانقلاب في 1876). حاول عبدالعزيز تطوير الإدارة العثمانية قضائيا وتجاريا فأصدر قانون التجارة البحرية وشجع على إصدار مجلة «الأحكام العدلية». كذلك حاول تحسين شروط التفاوض مع أوروبا فأخذ يتقرب من روسيا القيصرية بقصد الضغط على فرنسا وبريطانيا ولتخفيف تهديدات موسكو العسكرية. ولكن مناوراته انقلبت عليه فواجه ثورة في جزيرة كريت (اليونانية) فاضطر إلى إخمادها خوفا من انتشارها في منطقة شرق المتوسط كذلك وجه جيشه لليمن حتى يضمن حدود السلطنة على المداخل الجنوبية للبحر الأحمر.
هذه التحركات السياسية والعسكرية كلفت السلطنة كثيرا بسبب إنفاقها على تمويل تلك الحروب التي ترافقت مع محاولة للانفتاح على روسيا والاتكال داخليا على إدارات دستورية تشكلت وفق نماذج وتصورات أوروبية أعطت صلاحيات خاصة لمجلس الشورى (البرلمان) ورئاسة الحكومة العثمانية. وكل هذا الجديد والتنازلات لم تخفف من ضغوط أوروبا فاندفعت دولها إلى تأليب الرأي العام على السلطان وتحريك منطقة البلقان ضد نفوذ السلطنة وصولا إلى تدبير انقلاب ضده بالتعاون مع مدحت باشا.
الانقلاب على السلطان بقيادة رجل الدولة مدحت باشا يعتبر إشارة واضحة تعكس مقدار الضعف الذي وصلت إليه السلطنة. فمثل هذه الخطوة الجريئة كان من الصعب تصورها سابقا كما أنها لم تكن تحصل لو لم تتمتع السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية بصلاحيات سياسية تعطيها المجال للتحرك باستقلال عن رقابة السلطان وإشرافه.
الانقلاب الذي قاده الوزير مدحت باشا تم على مرحلتين: الأولى، تعيين مراد الخامس (ابن شقيق عبدالعزيز) لفترة انتقالية وجيزة. الثانية، إقالة مراد الخامس بتهمة الجنون وتعيين عبدالحميد الثاني. وفي عهد السلطان عبدالحميد الثاني ستشهد السلطنة تحولات كبرى وانقلابات كثيرة وتغييرات غير محسوبة. فهذا السلطان القوي سيحل البرلمان ويعلق الدستور وينقلب على مدحت باشا ويقوم بنفيه إلى الحجاز. كذلك ستحصل ضده تمردات بقيادة جمعية «تركيا الفتاة» القريبة من الوزير مدحت باشا وصولا إلى الانقلاب عليه بقيادة جمعية «الاتحاد والترقي». وبذلك سيكون عبدالحميد الثاني آخر السلاطين العثمانيين بعد تاريخ طويل من الجهاد والبناء وثم التعثر والاضمحلال.
بين الانقلاب على السلطان عبدالعزيز في 1876 والانقلاب على السلطان عبدالحميد الثاني (آخر السلاطين العثمانيين) في العام 1908-1909 ستحصل تطورات سياسية كبرى في المنطقة ومحيطها الأوروبي والآسيوي والإفريقي وستكون بداية نهاية الشكل الأخير من إشكال الخلافة الإسلامية. فخلال هذه الفترة الزمنية القصيرة نسبيا (33 سنة) سيدخل العالم العربي الإسلامي في عاصفة دولية كبرى وسيتعرض خلالها للاجتياح والغزوات والاستعمار وستكون نهاية حقبة تاريخية كبرى قاد خلالها الإسلام العالم نحو ثمانية قرون، وبداية حقبة تاريخية كبرى قادت خلالها أوروبا وحيدة العالم وهي لاتزال حتى الآن تقوده بالتعاون مع الولايات المتحدة.
خلال فترة 33 سنة سيكون العالم الإسلامي في مكان لينتقل بعدها إلى مكان.
بداية هذه الفترة ستكون بعد رحيل الطهطاوي الذي شهد لمحات وشذرات عن صورة المستقبل في عهدي الخديوي سعيد والخديوي إسماعيل الذي سيتعرض بدوره إلى حركة انقلاب ونفي في العام 1879 لمصلحة الخديوي توفيق.
هذه المؤامرات والانقلابات والعواصف الكبرى لن يشهد تفصيلاتها الطهطاوي الذي يعتبر من جيل أشرفت دولة محمد علي وإبراهيم باشا (المؤسس وابنه) على تربيته، بل سيعيشها ويلاحق انهياراتها وتداعياتها جيل البستاني والشدياق والتونسي وصولا إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1617 - الخميس 08 فبراير 2007م الموافق 20 محرم 1428هـ