من الطبيعي جدا وفي المراحل المتقدمة لرأسمالية أنجلوساكسونية متوحشة كالتي يعاصرها العالم من القرن السابق وحتى مطلع هذا القرن الجديد، وتكاد أن تكون منفلتة في براريها وسهوبها الواسعة أمام قوانين عشبية جافة تداعب أقدامها وأكتافها ولا تعوق تحركاتها ورقصاتها ووثباتها على قطعان الجواميس الاقتصادية التقليدية الرابضة في إقطاعياتها، طبيعي جدا كما قلنا ان تسود هنالك حال استقطابية فاقعة في العالم بين معسكرين متضادين معيشيا، إحداهما معسكر الفقراء الذي يزدد كل يوم اتساعا ونفيرا وزفيرا مصطخبا في مقابل تقلص وانكماش هادئ لمعسكر الأغنياء في تلك التضادية المرعبة التي تشهدها جميع دول العالم المتخلفة منها والنامية والمتقدمة.
حين يزداد الإنتاج والنمو بأرقام جنونية وخارقة تلهث خلفها المؤشرات في حين يلهث الملايين وراء متخلفات لقمة العيش نتيجة السوء في التوزيع، حيث لا اختلاف إلا في مستوى الدرجة التي تتحدد انطلاقا من مقدار ما تضعه كل دولة من ضمانات وقائية واحتياطات إجرائية ومتاريس وأحزمة تشريعية تخفف من نهم ما أطلق عليه ماركس ذات مرة بـ «قانون الإفقار الرأسمالي» عسى أن تتمكن من صون بقاء وتماسك الطبقة الوسطى الأكثر عرضة للتهديد!
وبخصوص البحرين الحبيبة الصغيرة، والتي تجد نفسها محصورة وسط أنياب ومخالب وحش هذا النظام العالمي الجديد فلا يمكنها أن تتمرد عليها أو تخرج عن إمرته وإنما التأقلم مع تكيفاته، وهو الذي يظل آخذا بمستويات توزيع الثروة جائرا، فإنه بات أمرا مألوفا ومعتادا أن يجد الفقر والفاقة والعوز المعيشي مرتعا له، وأن يعشش بألفة في بيوت وجيوب وأقبية أهل هذه الجزيرة الوادعة من دون أن يعرف طريقا إلى قلوبهم أو يتجرأ على طرق باب ألفتهم والتحرش بعاداتهم وقيمهم الاجتماعية المترسخة في الأنفس الأبية.
وعلى رغم المسمى النفطي للدولة المتموضعة في الخليج العربي فإنه ومقارنة بمستوى المعيشة والرفاهية السكانية مع عدد من دول الخليج النفطية المجاورة، فإن البحرين التي ينعم فيها المواطن بدخل منخفض تقريبا، وتتميز بكثافتها السكانية المرتفعة مقارنة بدول العالم وإن رجعت إلى عوامل طبيعية أم اصطناعية، فيما يجعل منها أشبه ما تكون بإندونيسيا الخليج العربي!
إن لم يكن الكل فلربما معظم المواطنين والمقيمين هنا غارق في الديون والقروض الربوية والشرعية وما شابهها، بدءا من المواطن البسيط الذي يظل رهينة لارتفاع كلف المعيشة الحادة وسوء الحال الذي يجعل منه قادرا على تحمل العيش بدولار واحد يوميا، وانتهاء بالتاجر الذي يخضع هو أيضا لحاضنته الحميمة عليه من أسرة القروض والديون، وهو أمر ليس مستغرب أبدا حينما تظل دولا ذاتها أسيرة لشروط ونصائح وقروض البنك الدولي المدمرة التي لا تزيد الوضع إلا سوء كما شهد العالم ذلك في تجارب آسيوية!
لذلك فإنها تأتي بردا وسلاما على قلب المواطن البحريني الفقير زيارة رائد بنك الفقراء وآخر الفائزين بجائزة نوبل للسلام البروفيسور الاقتصادي محمد يونس إلى البحرين، وإلقاء محاضرة عن تجربته في إنشاء بنك الفقراء ببنغلادش الشقيقة، ودعوته من أرض البحرين إلى اعتمادها في محاربة الفقر ومطاردته عسى أن يجد له ملتجأ في المتاحف، ليعتزم توقيع مذكرة تفاهم على أمل الإفادة من خبرات بنك «جرامين» الرائدة لإقراض الأسر المحتاجة من دون ضمانات قانونية وبنكية، مع التركيز على منح المرأة لهذه القروض بصفتها الأقدر على تدبير أمور المنزل والأسرة المعيشية!
وهو ما يدفعنا من دون تردد وكبداية طيبة إلى الثناء والشكر على هذه الزيارة المرحب بها من أعماق كل قلب محروم، وعلى تلك البادرة الكريمة لتوقيع الاتفاق مع بنك «جرامين» التي تشير إلى تقدير كبار المسئولين البحرينيين لحجم المأساة التي يكابدها شعبنا بشقائه المعيشي يوميا.
وعلى رغم أنها جاءت كما هو ظاهر خطوة أولية للتخفيف من حدة الفقر الذي يعاني منه الشعب البحريني بجميع فئاته الموزعة على مواقف السيارات لتغسيلها، وحتى أفخم المكاتب في أكبر المصارف، والتي ظل يعاني من انفتاح الاستقطابية الدولية الحادة على ملء شدقيها عسى يساهم هذا المصرف إذا ما شاءت له الأقدار أن يتأسس فعليا في البحرين، ويشيد أركانه على أرضها ليقدم خدماته الإقراضية المتنوعة للمواطن البحريني الفقير والمنتج، ويساعده على التخلص قد الإمكان من غوائله المعيشية، وستظل في اعتقادنا هناك بعض التحديات الكبيرة التي سيرتهن نجاح هذا المشروع بمدى تمسكه بأطراف حلها.
ولعل من بينها تحديا ذا مدى بعيد ويأخذ منحى أكثر تراكمية ألا وهو تحدي غرس قيم وثقافة الإنتاج وترسيخ جذورهما في التربة المجتمعية لتحقيق التنمية قدر المطلوب، وهو ما يتطلب بث التحفيز على البذل والعطاء، والتنافس الاجتماعي الإنتاجي عبر المساعدة على إزالة العوائق القائمة والمصاعب الواقعية المتعلقة بالبيئة والمحيط الاجتماعي، وتقديم الإرشاد والتوجيه والمشورة والدعم الفني.
كما توجد هنالك تحديات موضوعية محتملة أخرى يجب أن يضعها القائمون على المشروع نصب أعينهم، وكذلك الذين يعلقون كثيرا من آمالهم العريضة على ما ستحققه تجربة إنشاء بنك للفقراء في البحرين على غرار بنك «جارمين» في بنغلاديش، ومنها على سبيل المثال واقع مشكلة شح الأراضي في البلاد، وهو ما يشكل ظاهرة غريبة من نوعها في المنطقة، وزيادة الكلفة المعيشية مقارنة بمصادر الدخل، وعلائق التشريعات والقوانين البيروقراطية المحبطة وغيرها... الخ.
وبغض النظر عن حجم الكفاءات والكوادر المحلية والإقليمية المرصودة والمتوقعة لإدارة وتوجيه هذا البنك الذي يفترض أن يكون عنوانه استقلاليته، فإن ما هو مقترح ومأمول لنجاح هذه التجربة ولأجل بث الحيوية في مفاصلها الفتية أن يتم إسناد إدارة وقيادة هذا البنك بمساعيه وأهدافه المرسومة له إلى القطاع الخاص أولا، وذلك بالتنسيق مع المؤسسات الحكومية والمنظمات الدولية، ليكون لاعبا حيويا وأساسيا في التنمية الاجتماعية ومعالجة الفقر وتوسعة الطبقة الوسطى بمرونة، كما هو يراد له أن يكون مساهما رئيسيا في إدارة الاقتصاد والنهوض به.
ومن يدري فربما لو نجحت هذه التجربة في مستنبتها الجديد بالبحرين، وخفضت من مستوى الفقر المستشري في البلاد كحل علاجي، لابد أن تتلوه وتترافق معه خطوات إجرائية سياسية حاسمة وملموسة لمعالجة ظاهرة سوء توزيع الثروات والموارد الطبيعية والإيرادات المتحصلة منها، لربما تخلص الفقر نفسه من أن يكون موضوع حل وتحليل بدلا من إدارة وتدوير.
وقد يتخلص حينها الفقراء والمعدمون من أسر وعبودية كوبونات «الرحمة» التي تتصدق بها جمعيات «دينية/ سياسية» طائفية، وتوجهها لذر الرماد في العيون كحل تخديري، وكوسيلة ابتزاز سياسي مغرض يدعم توجيه الأصوات في يوم الميعاد الانتخابي، أو أن يرتمي المواطن/ الناخب المسكين تحت رحمة صدقات وفتات مكافآت «النواب» المصدومين بضآلة سلطاتهم وصلاحياتهم التشريعية، والذين اكتشفوا أن العنب حامض جدا ولو «طالوه»!
عسى أن تمر علينا أيام وشهور وسنين سعيدة لا نرى فيها الاقتصاد حفلة للأثرياء وكبار الملاك والمملوكين وحدهم، ولا نعايش التسيس مِلحا مُلحْا لخبز المواطنين الفقراء ومن دونهم، وهم يرتمون صرعى الهم في فجواتهم المعيشية الكبرى بين بدء القرار وختام المستقر!
وكما روى البروفيسور محمد يونس عن تجربته من الخروج من تدريس النظريات الاقتصادية الجميلة في الجامعات إلى إقراض الفقراء وتعليمهم الإنتاج والكسب الكريم لمكافحة الفقر، فالمواطن البحريني الفقير بلا شك يتمنى النزول من أعلى الأبراج حيث الأرقام والنسب الجميلة معلقة إلى دنيا القاعدة الشعبية الكادحة والمتسعة في الأسفل، لينل هذا القطاف الرقمي بعدالة، وتوزع هذه الأرقام والنسب والمؤشرات بشكل وصورة أجمل.
فلا يكفي تعليم المواطن الفقير العيش والإنتاج الكريم على أبعد الآماد، بل الأهم من ذلك أن يكون المواطن قبلها شريكا فاعلا وبناء في أراضي وثروات وموارد بلاده قبل أن يخضع لحكم الأمر الواقع المرتهن في غياهب سوداء لا يعلم لها قرار، كما هو شريكا في قراراتها وسياساتها المصيرية ولذلك حديث آخر.
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1616 - الأربعاء 07 فبراير 2007م الموافق 19 محرم 1428هـ