تابعت تطور وتسارع وتيرة الحوادث الأخيرة خلال الشهرين الماضيين في لبنان وما صاحبها من اعتصامات وإضرابات وقنص وتبادل رصاص بين الأطراف والأطياف السياسية المتنازعة، وقلت في نفسي: ما أشبه اليوم بالبارحة وعادت بي الذكرى إلى 30 سنة مضت و انقضت. إنه مشهد سياسي مماثل ومتكرر وتحديدا يومي 10 و11 فبراير/ شباط 1977 من القرن العشرين حيث اشتد القصف المدفعي والصاروخي بين الأطراف المختلفة وأقيمت على إثرها الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش على مفارق الطرق بشكل كثيف وفوجئت مثل كثير من المواطنين اللبنانيين بتمركز الدبابات والمدفعية الثقيلة في الميادين الواسعة والمفارق المختلفة وكأننا في ساحة حرب لا في بيروت عاصمة الثقافة والحضارة، وحمدت الله أننا في البحرين ننعم بالأمن والأمان وحب الأوطان، وكان منزلي يطل على ثكنتي شهاب الدين الكبيرتين وقد أقيم أكثر من حاجز تفتيش على الطرق المؤدية إلى الثكنتين السالفتي الذكر، وأخذت أبحث مثل غيري عن الأسباب التي أدت إلى هذا التصعيد العسكري في المنطقة الغربية في بيروت وهي المنطقة الإسلامية، وقد تسلل الخوف والفزع إلى نفوس المواطنين بل أخذ يتحكم في تصرفاتهم وكانوا يتصورون أن هذه الأجواء الأمنية والعسكرية قد تلاشت بعد دخول قوات الردع العربية إلى مناطق التوتر في لبنان الشرقية والغربية منها، وذلك في نهاية 1976 من القرن العشرين كما سمعت إطلاق نار متقطع وخفيف في المخيمات الفلسطينية ولاسيما في الليل على رغم بعدها عن منطقتنا. وحقيقة الأمر أن ضابطا سوريا من قوات الردع تلك اغتيل من قبل قوات الرفض والتصدي الفلسطينية كما تطلق على نفسها ذلك، كما سقط عدد آخر من الفلسطينيين المسلحين قتلى وجرحى وأعقب ذلك قصف مدفعي شديد بين الجانبين في مدينة مسالمة وسقط الكثير من الضحايا من الجانبين، وأذكر أن قوات الصاعقة وهي في الأساس فلسطينية ولكنها تابعة أو موالية للنظام السوري في لبنان قامت بإدخال لواءين عسكريين كاملين إلى منطقة الاشتباكات جلبتهما من جنوب لبنان حيث كان أفرادها يعسكرون هناك... كانوا مسلحين بأسلحة ثقيلة، وقاموا في الحال بمحاصرة المخيمات الفلسطينية التي صدرت منها النيران.
وكما ذكرت أن هذه القوات معظمها سورية إلا أنها مطعمة بالجنود الفلسطينيين. وعلمت بعد ذلك أن الهدف من هذه التحركات العسكرية السورية احتلال منطقة الفكهاني التي تتخذها قيادة فتح الفلسطينية وبعض القيادات الأخرى مقرا لها، وأذكر جيدا أن ياسر عرفات سارع إلى طلب الإغاثة من الرئيس حافظ الأسد وطالبه بفك الحصار عن مقره وعن المخيمات الفلسطينية البائسة وفعل الشيء نفسه عندما ناشد الزعماء العرب وأذكر أننا التقينا أبوإياد (صلاح خلف) وأبوجهاد (خليل الوزير) وقد انتقل الرجلان إلى جوار ربهما، إذ قتل أبوإياد على أيدي فلسطينية في تونس كما قتل أبوجهاد أمام زوجته في منزله بواسطة قوة إسرائيلية بحرية وجوية داهمت منزله وقام بقيادة الإنزال البحري وبالعملية رئيس وزراء «إسرائيل» ايهود براك وهو من غلاة الصهاينة، وذلك في منطقة حمام الأنف الساحلية التونسية ومن الصعب علي نسيان ذلك الوقت الحميم الذي قضيته مع أبوإياد خلال زيارته البحرين في سبتمبر/ أيلول 1988، إذ كنت مرافقا له عند مقابلته جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة الذي كان آنذاك وليا للعهد.
وأعود إلى حصار المخيمات، إذ صاحبت هذا الحصار مداهمات قامت بها قوات الردع السورية بحثا عن الأسلحة والمطلوبين إلا أن هناك قضايا أمنية معلقة لم يتم البت فيها لأسباب سياسية ولمست أن الفلسطينيين في خوف وهلع من أن يكونوا وجها لوجه أمام السوريين واللبنانيين، إذ يستعينون بقوة عسكرية ضخمة لا قدرة للمدافعين عن المخيمات وكذلك مقر رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بها.
وأود هنا أن أشرح للقارئ بإيجاز عن الأطراف الفلسطينية المتنازعة فهناك أحمد جبريل قائد الجبهة الشعبية الفلسطينية وهي جزء من قوات الرفض والتصدي وقد استطاع السوريون أن يستميلوه إلى جانبهم، ما أثار حفيظة تلك القوات وقد تعرض للاغتيال عدة مرات وهناك أبوالعباس وأعوانه وهم الذين يتصدون للوجود السوري بكل قوة، ومن ناحية أخرى مهمة أن الحكومة العراقية دخلت على خط التماس في صراعها السياسي والمرير مع النظام السوري وهم يقومون بالاستعانة بقوات الرفض الفلسطينية في تصعيد خلافاتهم مع النظام السوري مع أن كلا النظامين ينتسب إلى حزب البعث الذي ينادي في شعاراته بالوحدة بأمة واحدة خالدة حتى النصر. وقد أدركت آنذاك أن لبنان يمر بفصل قصير من مسرحية سياسية طويلة متكاملة الفصول ضحيتها في المقام الأول أمن واستقرار لبنان وحريته وأهل فلسطين المغتصبة.
كما أن منظمة فتح لا تريد أن تمارس ضغطا شديدا على قوات الرفض الفلسطينية خشية من أنه إذا ضربت هذه الجماعات الفلسطينية سيأتي الدور على منظمة فتح وهي أكبر المنظمات الفلسطينية وأقدمها في الكفاح السياسي والعسكري، كما أن «فتح» هي المنظمة الوحيدة التي تتحرك ضمن استراتيجية فلسطينية محددة تخدم أفكارا معينة وهي تسعى إلى إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة وهي تدرك أنه لن يتحقق ذلك إلا باعتراف الفلسطينيين أولا بـ «إسرائيل» وهي ما تطالب به أميركا والدول الغربية وإلا لن تكون هناك مفاوضات جادة وهذا ما تحقق بعد اتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين و «إسرائيل» وفي تلك الفترة قام الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالد هايم وكذلك وزيرا خارجية أميركا وفرنسا بزيارات مكوكية لهذه المنطقة، ولكن من دون تحقيق أي نتائج سياسية تذكر كما أن التصلب الفلسطيني يعود إلى أن قضية السلام في الشرق الوسط تلفها الغيوم، على رغم أنه في ذلك الوقت عقد مؤتمر جنيف للسلام ولم يحقق أي نجاحات تذكر وإن إحالة القضية الفلسطينية إلى مجلس الأمن وأروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة لن يحقق أي نجاح طالما أن الولايات المتحدة تواجه هذه القضية بقرارات الفيتو في مجلس الأمن وهكذا ستواجه القضية الكثير من التسويف والمماطلة والتأجيل.
والآن تدعو أميركا اللجنة الرباعية إلى بحث خريطة الطريق من جديد والتي ضاعت في فيافي ودروب الشرق الأوسط. والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا نحن العرب حاليا: هل نقرأ التاريخ ونستوعب دروسه؟
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1616 - الأربعاء 07 فبراير 2007م الموافق 19 محرم 1428هـ