العدد 1616 - الأربعاء 07 فبراير 2007م الموافق 19 محرم 1428هـ

سيرة وجوه تتسلل إلى الذاكرة

فيبي ثلاث ساعات لتاريخ يحمل وجهه إنسان

تقرأ خريطة الوجوه، وتتلمس بيدها تاريخها، تمضي بحدسها، كآخر قارئات الودع، من يسحب الوجوه من الناس ويضعها على البياض؟ من يشعل ملامحها بقنديلها الداخلي، فيضيء ما يدور فيها، تسربت إلى ذاكرتها وجوه العابرين في الحياة، والمنتمين لأوجاعهم وأفراحهم الصغيرة، لكنها وجوه العامة، وجوه اختبرت الحياة، فامتلأت بفرحها وحزنها.

تمكنت من جمع المتناقض والمختلف، حين وضعت الوجوه عارية من معتقداتها وأجناسها، كانت وجوها إنسانية فقط، ولم تكن هذه الوجوه «مسك» لشكل ووضعه في إطار، لم يكن «مسك» لزمن وتجميده، بل كانت سيرة وشحنة عاطفية، تصعق من يمسها، بخفة الروح وقدرتها على التسلل.

طفلة تكبر سبع دقائق في الحلم، شفافة كأنها تُجلس الغيم على ركبتيها، وتعيد النهر سالما إلى مكانه، لم تكن من عبر الطريق من الجهة الأخرى، كانت الجالس معك... إليك... بك، كانت موجِعة القرب، تدخل إليك بمجرد مصافحتك، وتبتلُّ بطفولتها لمجرد اقترابها منك، مسكونة بخيط رفيع من الإنسانية، كائن تدرك سريعا أنك عرضة لقلبه، فتغادر منه به، كأن حقائبك لا تسع إلا ذاكرته، كانت البحرين التي أخذت منها ثمانية عشر ربيعا، نبيتها التي توحي لها... بها... إليها، فكانت الوجه الذي أعلن تقويمه السنوي بالوجوه، وعدد دقات قلبه بالوجوه، كانت الوجه الذي تراه في العابرين، لكنها الوجه الوحيد بينها القادر على جس الحنين فيها. فيبي بوسويل المولدة من أمٍ اسمها نيروبي، وأب كثير الحزن اسمه كينيا، في يوم ما من العام 1982م، ليأخذها الله إلى عاصمته في الأرض، وخازنة ماء خلوده، هذه الأرض التي لم تكتفِ ببحرٍ واحدٍ، ليكون لها وحدها بحران، فتمضي ثمانية عشر ربيعا مأخوذة بخريطة الوجوه فيها، مطاردة بلعنة العابرين إلى دفاترها المدرسية. الشرطي الواقف إلى إشارة المرور بسهو بسيط يدخل الكتاب، الإسكافي الذي يربط الأحذية بالطريق، طفل الجيران المعتاد على سرقة لوز جيرانه، بائع «الخضراء» في آخر الناصية، السياسي المتخم بقضايا أمن الدولة، وارتفاع الأسعار، رجل الدين وهو يقرأ سفر يوحنا، ويعتمد العهد الجديد قانونا لحياته، الخادمة التي تحس بوجع في مفاصلها، قبل يوم من تسلم راتبها، كل أؤلئك كانوا ضالعين في غواية كتابها، كانوا وجوها لها سيرتها، وقدرتها على الجلوس ثلاث ساعات أمامها.

قبل يوم... فيبي تتأكد من المكان ووالدها يضع المصابيح على السقف!

قبل يوم من المعرض، فيبي تلقي نظرة على المشهد في الرواق، والدها في أعلى السلّم يصل المصابيح، والدتها تشرف على المكان من الأسفل، لوحاتها مبعثرة في المكان، الوجوه هذه المرة نزلت من مكانها في الرأس، لتستقر على أرضية صالة الرواق، فهل كل شيء معد جيدا؟ فيبي كيف رسمت مصابيح على الجدار، أعتقد هي المرة الأولى التي يتحول فيها جدار الرواق إلى جزء من المعرض. أتدرين؟ يبدو أنك ستصيبين بيان كانو بالجنون، لا أبدا بيان مرتاحة، وأعطتني الضوء الأخضر في المضي في العمل. نشوان تطل من المكتب، وبكلمة سريعة كعادتها التي تبدو دائمة المشاغل، هل وصلتك الدعوة؟ نعم وصلتني الدعوة، ينتهي الحوار لأن هاتفها عاد للعمل من جديد، أعمال فيبي هذه المرة مختلفة، فقد قدمت أعمالا دخلها اللون، في حين كانت أعمالها في رسم الشخصيات اعتمدت على طرد الألوان من اللوحة، لكن يبدو أن هذه المرة تعاطفت فيبي مع أصدقائها الألوان وسمحت لهم بالسكن في لوحاتها. أشارت إلى القاعة الفرعية، هنا سأعرض الفيلم، فيلم! كنت أعتقده معرضا لفن البورتريه فقط، نعم إنه كذلك، وهذا الفيلم ينقل جوانب مهمة غير معلنة، أو غير مرئية في اللوحات، فمن خلال الفيلم يمكن رؤية كل حالات الوجه الذي تعرَّض للرسم، أو تحوّل إلى عمل، فهنا يمكنك رؤية حالات مختلفة للوجوه، هذه الوجوه التي تسللت إلى لوحاتي وأعمالي، ثم تركتني للمكان يضيئني وجه عربي على الشاشة.

يوم افتتاح الوجوه على المعرض

يقول والدها إنها تضع بقعة لونية على سطح اللوحة، ثم تبدأ برسم العين، فتكون العين وحدها قياس ما ستذهب إليه اللوحة من شكل، ثم يضيف: «أعتقد أن ذلك خلاف أصول الرسم، لا أدري...، لكن أعتقد أنها مجنونة فعلا»، الإشارة إلى العيون في لوحات فيبي أمر اقترحته إحدى الزميلات، حين وجدت أن نقطة ارتكاز أعمال فيبي في الوجوه تعتمد على العيون، فهذه العيون هي التي تعطي الأعمال إحساسها، فتجدها غاضبة مثلا وإن لصقت على فمها ابتسامة صفراء، أو تجد الأمل ينهض من عينيها، وإن كانت السنون أعطت الوجه منحنيات وتقاطع التعب.

وعند حديثك مع فيبي عن صورة ما تبدأ بسرد سيرة هذه الشخصية، لكنها من جانب آخر لا تعلق على كون الصورة انعكاسا لما تشعر به تجاه الشخصية المعرّضة للرسم. تقول عن إحدى اللوحات إنها لعارضة أزياء، كانت تمتلك قسمات وملامح جميلة، لكنني أحسست بشيء آخر حين رسمتها، وحين ألقى عليها ابنها نظرة في المعرض. أعتقد أنه لم ير ما كان يتوقع، بكل ذلك تُظهر فيبي من خلال أعمالها شخصيتها وعواطفها، وهذا ربما ما جعل أعمالها تكسب لمسة خاصة ومتميزة، فلو كانت محاولة لرسم الوجوه كما هي، لوقعت في إشكالية كون الصورة الفوتوغرافية أكثر صدقا ومطابقة للواقع، وبذلك تنتفي جودة العمل فيما تقدمه بشكل ما. وأنا أحاول تلمس طريقي للأعمال وجدت طفلة بجنبي، لم تكن تتجاوز التاسعة، سألتها ما يعجبها في اللوحة التي أمامها، كانت لوحة لامرأة مسنة، تظهر تقاطيع وجهها أثر السنين، وعيناها غائرتان كآخر حلم، وقفت الفتاة فترة في حال صمت، ثم قالت: أشعر بأن أعمال فيبي رائعة، وذلك لأني لو كنت سأرسم هذه الوجوه سأرسم مثلها، أشعر أن هناك أملا في هذه العيون، ولكن لو أتت صاحبة الصورة الآن أمامي، لأمكننا ذلك من مقارنة الصورة بالشخص، ثم انتقلنا لصورة أخرى، وهي صورة رجل في عقده الخامس، لتقول عن اللوحة إنها تشعر بأن غضب ما يسكن اللوحة، ربما كان الرجل غاضبا حين حاولت فيبي رسمه، توقفت قليلا عند كلامها، هل سيأتي شخص ليجلس أمام رسامة لمدة ثلاث ساعات، ليحمل وجه آثار غضب، أم أن فيبي هي من أحست بهذا الغضب فأظهرته في لوحاتها؟

حين تنقل المعرض معك وأنت خارج منه

عند محاولتنا الخروج من المعرض، كان شيء ما يختبئ في ذاكرتنا، فهل كانت وجوه فيبي، أم ذاكرة الحضور المزدحم في صالة الرواق؟ لا أمتلك إجابة، وأعلم أني بذلك أخيب ظنكم من حصولكم على إجابة ما، لكن فيبي تقول لنا ونحن نهم بالخروج من المعرض، أتدري أنا لا أحب الكتابة الصحافية التي تأتي على شكل تقرير صحافي، أحسه جافا، لا أدري لماذا يتم التعامل مع المعارض بهذه الطريقة؟ هنا حاولت ترتيب ما وراء الحديث قليلا، أولا الطفلة التي تقول عن لوحة لفيبي إنها تشعرها بالأمل، هذه الطفلة تتحدث عما تشعر به هي من هذا العمل، أي أنها لا تتكلم عن العمل بعيدا عن ذاتها، اعتبرت العمل جزءا من رؤيتها للجمالية، وفيبي لا تحب التعامل مع المواد ما بين قوسين «الجافة»، فهل كانت تصر فيبي على سحب الانطباعية على الحضور، ثم إلى الصحافة؟

العدد 1616 - الأربعاء 07 فبراير 2007م الموافق 19 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً