مر شهر منذ أن نزفت الشجرة دما، صارت قبلة للزوار وحملة النذور والمصابين بالجذام والعمى... صارت موئلا لكل صاحب عاهة، يتبركون بدمها، يقيمون لها الولائم وحلقات الذكر.
صحا الناس على شجرة الرأس (ولد أكثرهم وهي تعرف بذلك الاسم)، ذات صباح، والغيث محتبس عن القرية، أصاب الحيوانات بأنواعها، هزال أودى بالغالبية العظمى منها، جف ضرع النساء، وكادت الأرحام أن تعقم، ولم تعد الأرض قادرة على أن تعد أحدا بحصادها، تناسل اللصوص وقاطعو الطريق بشكل مرعب، ضج الناس من فقدان الأمن، وحضور الفاقة. ثمة أمراض لم يعهدوها من قبل، باتت الشغل الشاغل لطبيب العيادة الوحيد. راجت تجارة العرافين وقارئي الكف وضاربي الودع!، فيما الطوابير الطويلة لا تكاد تنقطع أمام منزل طعان المسري، يرى فيه كثيرون وليا من أولياء الله الصالحين، جاءوا يلتمسون منه مخرجا لما هم فيه من محنة وضائقة، فيما عينهم على ابنه الوحيد مسري، الذي رأوا فيه خليفة لوالده العارف بالله، واعتقدوا بكرامته، يوم أن مسح بيده على رأس أخت «مجنون القرية»... صبية كأنهم فلقة قمر طالع، تنتابها حالات من صرع متقطع، ولم يمضِ شهر حتى استعادت طبيعتها!.
لم تعرف الأرض شجرة بمثل امتدادها... يبدو البشر أمامها نمشا أو محض ندوب... ظلها يمتد إلى الجهة القصوى من القرية... ثمرها طيور من أرجاء الأرض... تضوع بمسك ينشر أريجه في الجهات المفتوحة على القرية... يصدر عنها صوت مزامير ونايات... صوت نساء خرجن للتو من حفلات الماء... فيما ادعى بعضهم أنها في الأشهر الحرم، لا كاد ينقطع منها صوت تلاوات يأخذ بالألباب.
دما كالميازيب تنزف، تضوع بذات المسك، وذات التلاوات فيما اختفت أصوات المزامير والنايات منذ أن صحا الناس على دمها الذي يكاد لا ينقطع.
أشارت إحدى العرافات إلى مجموعة منهم على أن يبادروا إلى قطعها، مع ترك أربعة ممن تبلغ أعمارهم خمس سنوات للسهر عليها ليلا، وسيخاض في دم الشجرة إلى الركب، ليجتاح بعض البيوتات، إلا أنه أول الخلاص! هكذا حدثتهم. غادروها متطيرين من فكرة وصول الدم إلى الركب... وهم الذين عانوا ما عانوه طوال شهر على رغم حفاوتهم الكبيرة بها. عزفوا عن الفكرة تماما... تيقنوا من أنها أضغاث تنجيم!، ومحاولة لاستدراجهم إلى مزيد من البؤس والكوارث.
ظل الناس يرون في طعان السمري أملهم المؤجل. لكنهم ما انفكوا يتساءلون: ما الذي يجعل رجلا بكراماته الغبرة يضرب صفحا عن وضع حد لمعاناتهم الطويلة؟ وهو الذي ظل موئلا لابن السبيل، أبا ظل للأرامل واليتامى والمنكوبين، فيما هو في ظل دم الشجرة الذي يكاد يغمر القرية بشر مستطير لا يبدي أية محاولة لتفسير ما صحا عليه الناس، ولا يعلمون إلى أين هم ماضون!. أرجع بعضهم صمته الطويل إلى أن الرجل يلقي في روعه في كثير مما يقدم عليه، وأن الوقت لم يحن بعد لإخراج الناس من محنتهم.
«مجنون القرية»، يظل يتمتم بكلمات اعتبروها واحدة من هذيانه الذي يبدأ مع أول الصباح، وينتهي حين يرخي الليل سدوله... يهذي: «صبية افترسها الظل... دم البكارة يكاد يحجب الشمس... صبية يستدرجها الظل فينفجر الظل بالدم!». يمر في الأثناء مسري طعان المسري... ينظر إليه شزرا، فيما يوعز إلى أحد مرافقيه بتنحيته عن الطريق.
يصحو الناس في القرية على نزف دم الشجرة أكثر مما عهدوه في الأيام الماضية، يشق طريقه في جداول كأنها حفرت منذ دهر... لم يألف السكان وجودها من قبل... ينساب في أناة نحو وهد تنتهي عنده حدود القرية.
زرافات يولون وجوههم شطر بيت المسري، خوفا من أن يتحول دم الشجرة إلى طوفان يجرف أمامه كل شيء صمته وتأنيه يجعلهم يقلبون الأمر على أكثر من وجه... يضربون أخماسا في اسداس... وهو الذي عهدوه أبا لنجدتهم... ومستودع أسرارهم.
يتركهم - ربما - لأيام أمام منزله في انتظار أن يؤذن لهم بالدخول عليه... فيما ابنه مسري لا يتردد في الإعراب عن تبرمه كلما رأى الحشود تزحف أمام البيت. بعد طول انتظار يأذن لهم بالدخول... يتوسط المجلس منكسا رأسه... يبادره كبيرهم: «محلت الأرض... وجف الضرع... وعقمت الأرحام... واحتبس الغيث... وشبت العاهات... وحالت بيننا وبينك جدر لم تك قائمة قبل اليوم. دلنا على الطريق التي نعيد بها نصاب أمورنا إلى ما كان عليه».
يطرق برأسه إلى الأرض... يرفعه ثانية باتجاه ابنه مسري... يقلب وجوه الحاضرين ببصره... ينتظرون نهاية لنظراته القلقة وصمته الذي طال ثم لا يلبث أن يكسر صمته: «يتناقل الناس كلام (المجنون) عن الصبية التي افترسها الظل، وعن دم لبكارة يكاد يحجب الشمس... عن صبية يستدرجهم الظل، فينفجر الظل بالدم... صاحبكم رأى ما لم تروه... حدث بما وقع... دلكم على السر: على الصبية والدم... على ما لا تعتقدونه ظلا تفجر بالدم... تفجر بالخطيئة!».
يبادره كبيرهم: «منذ متى كان المجنون محط أنظارنا في النوازل؟... وما علاقة الصبية وبكارتهم بدم الشجرة... وما علاقة كل ذلك بالظل؟... ثم إنه لو قدر لنا أن نقف على السر، ما الذي سيغير من واقع دم الشجرة الذي كاد يتحول إلى طوفان مع مرور الوقت؟ ما الذي سيغير من واقع الأرض التي محلت، والضرع الذي جف، والأرحام التي عقمت، والغيث الذي احتبس، والعاهات التي شبت؟
يرنو ببصره في المكان المكتظ بالوجوه الكالحة... ثمة غصة في الحلق كأنها برية من ملح... ثمة نار خرافية تتسجر في أحشائه، هو الذي يرى فيه كثيرون وليا من أولياء الله الصالحين، هو الذي التمسوا منه مخارج لك ما يمسك بخناقهم.
يحق ببصره في انكسار، جهة ابنه المنكفئ على نفسه... مطرقا ببصره إلى الأرض... يرمق الوجوه كأنه يكشف عما يعتمل فيها من وساوس وهواجس أخذت تتنامى مع إيماءاته ورموزه وإشاراته إلى هذيان مجنون القرية... وبصوت مختنق بادرهم: دعوا أخت (المجنون) تسهر أمام الشجرة هذا المساء، من دون أن يحرسها أحد... اتركوها في العراء لن يمسها سوء... ثمة حراس موكولون بها... حرس غير مرئيين... انتظروا حتى مطلع الشمس... سيمتد ظل الشجرة إلى الجهة القصوى من القرية... وسيعود ثمرها طيور من أرجاء الأرض... ستتضوع بمسك ينشر أريجه في الجهات المفتوحة على القرية... وسيستأنف صوت المزامين والنايات سحره الغابر... وستعانق أسماعكم صوت نساء خرجن للتو من حفلات الماء... ولن تنقطع منها أصوات تلاوات إلى أن يأذن الله... ستعود الشجرة قبلة لكم ولحملة النذور والمصابين بالجذام والعمى... وموئلا لكل صاحب عاهة... عندها فقط ستقفون على سر كلام المجنون: «صبية افترسها الظل... دم البكارة يكاد يحجب الشمس... صبية يستدرجها الظل فينفجر الظل بالدم».
«يومئ إليهم بالمغدرة... يهيمون على وجوههم في مدى لم يوفره خسف دم الشجرة... صفرة تنتاب الأفق من حولهم... فيما هم يترنحون في مشيتهم كمن أخذت بلبه نازلة.
الطريق إلى بيت «المجنون» محفوفة بوحشة لم تك مألوفة... طويلة هي المسافة حتى لتكاد تشبه الطريق إلى البرزخ... لا يخفي أحدهم تندره وتهكمه على كلام ولي الله طعان المسري: «أية مساحة من عقل بقيت لهذا العالم، حين يلتمسها من مجانين ومرضى بالصرع؟!».
يصلون إلى البيت... يطرقون الباب، يخرج المجنون، وقد هيأ أخته للسهر/ الخلاص...» سأرفقها إلى الظل قبل أن ينفجر بالدم!». يصعقون لهول المفاجأة... يصوبون أعينهم نحوه بشكل جماعي من دون أن يقوى أحدهم على التفوه بكلمة!.
يأخذها إلى حيث الموضع... دم لا يشبه أي دم كلما مر الوقت... له صفة الوحش... وشهوة الانتقام. قبل خطوات من الموضع يتركها ويختفي في ظلام يشبه العواء اللانهائي.
القرية لم تنم ليلتها في انتظار ما سيسفر عنه انتظار أخت «المجنون»... كثيرون لم يجدوا في كلام طعان المسري أي اختلاف عما يهذي به «مجنون القرية». الانتظار يحيل حياتهم إلى احتضار... وتوجسهم إلى انتظار طويل في مساحة من برزخ حط على الأرض!.
تطلع شمس الصباح بنعي انتحار ابن طعان المسري ذلك رأوا فيه خليفة لوالده العارف بالله، ذلك الذي اعتقدوا بكرامته - وهما -، يوم أن مسح بيده على رأس أخت «مجنون القرية»... صبية تنتابها حالات من صرع متقطع.
في الجهة الأخرى توقف انفجار الدم بموت مسري... ذئب بشري في هيئة ناسك... في هيئة ولي من أولياء الله... استباح بكارة صبية كأنها فلقة قمر طالع!.
* كاتب إماراتي
العدد 1616 - الأربعاء 07 فبراير 2007م الموافق 19 محرم 1428هـ