من التعبيرات البليغة التي وردت في نهج البلاغة، في معرض ذمّ الدنيا، قول الإمام علي (ع): «ولألفيتم دنياكم عندي كعفطةِ عنز».
أما العنز فكلكم تعرفونها، تلك الدابة السائبة على وجهها، لا تدري إلى أين تسير، أما «العفطة» فلابد من البحث عن معناها لمعرفة «المعفّطين» في هذا الزمان!
قبل الرجوع إلى القاموس، كانت الذاكرة تختزن صورة عنزةٍ تعطس، فيتطاير من منخرها الرذاذ، وهي صورةٌ عمرها عشرون عاما، تشكلت عند قراءة معناها في هامش «النهج». أما اليوم وأنا أراجع «المنجد في اللغة»، فقد صدمني معنى آخر للكلمة، أُجِلّ القراء ونفسي أن أعرضه هنا، ولمن أراد معرفته أن يراجع المصدر بنفسه.
على أن من معانيها أيضا، عفطت الضأن: «نثرت بأنوفها كما ينثر الحمار»! ويقال: «ما له عافطةٌ ولا نافطة»، أي ليس له عنزةٌ ولا نعجة... وبالعامي (خالس من كل شيء)!
ومن مظاهر (الخَلَسَان)، أن تظهر مانشيتاتٌ صحافيةٌ تشعرك أن من كتبها (شارب عشرق)، فأخذ يعفّط وينفث من منخريه رذاذا كسحابة الدخان الأسود. وعندما تستمرئ وسيلةٌ إعلاميةٌ سياسة «التعفيط»، فإنها تغيب عن الواقع كما يغيب من أثقل في تناول «المشروبات الروحية» في أحد المناهل الحمراء! فتتخيّل وجود مشروعات ومؤامرات أجنبية ومخطّطات سرية لقلب الأنظمة، في لعبةٍ سمجةٍ تحمّل الأمور أكبر مما تحتمل. وهي استمرار لتقاليد الصحافة التي تبيع عرضها ومهنيتها وتؤجّر ظهرها!
سياسة «التعفيط» هذه لا تعرف معنى المهنية وحدود الصدق، ولا تراعي أصول التغطية الخبرية الصحيحة. فأي طالب إعلام بالسنة الجامعية الأولى يدرك أنه من غير الجائز أن تطرح رأيا على مانشيت من ثمانية أعمدة. بل إنها في مانشيتها لكي «تكشف خبايا اللبننة»، تضع صورة أرشيفية للاشتباكات في لبنان المنقسم على نفسه بين أنصار «المعارضة» و«الموالاة»، بجانب صورةٍ من الحوادث المؤسفة يوم الجمعة الماضي لتثبت أن ما يجري في البحرين إنما هو مخططٌ من الخارج، وليس رد فعل داخلي بحت!
ولأنّ التاجر المفلس يتلذّذ بمراجعة دفاتره القديمة علّه يعثر على «دانقٍ» أو «هللة» أو فلس، فإنها استحْلَت العودة إلى قصة «لافتة» العام الماضي، وسبق أن أثارت هي نفسها زوبعة حولها، وتبين أن من نشرها أشخاصٌ من طلاب العلم صغار السن، فضلا عن أنها مقتطفةٌ من حديث ألقي قبل سنوات، ولم تكن من وحي العام الماضي حتى يفسّروها بأنها مؤامرة لقلب النظام (يعني ما تتركب). أصلا ومع ذلك يعود إليها «المفلسون المعفّطون» اليوم، في سياق دعوى عريضة بشأن تقسيم المجتمع إلى معسكر الحسين ويزيد، ويضعونها على المانشيت!
البلد ليس فوضى. البلد يحكمه قانون، ويفترض أن يسود القانون على الجميع، من دون محسوبيةٍ أو تمييزٍ أو (ناس دون ناس). وليس من الصحيح الاحتكام إلى الشارع. وكل متّهمٍ شخصٌ بالغ، مسئولٌ عن كلامه وخطبه ومواقفه وآرائه، التي مهما أثارت من جدل، فإن الحكم ينبغي أن يكون للقانون والقضاء العادل غير المسيّس، الذي لا يدين سارق جهاز ميكروويف بالسجن خمس سنوات، بينما لا يدين متهما بسرقة ملايين بحجة «عدم الاختصاص»! قانونٌ يعاقب شخصين بتهمة توزيع مطبوعات في عصر الانترنت والفضاء المفتوح الذي أسقط خرافة «أسرار الدولة» إلى الأبد، ولكنه لا يتجرأ على توقيف مدير فما دونه، على رغم ما كشف عنه تقرير الرقابة المالية من شيوع التجاوزات على المال العام.
في «المنجد»: عنزةٌ، أو نعجةٌ أو حمار... لكنهم كلهم«يعفّطون»! وقد لا تتخيلون أن من مشتقاتها أيضا «الأعفط»، ومعناه «الأحمق» و«الحمقاء»... فتأمّلوا يا أولي الألباب!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1615 - الثلثاء 06 فبراير 2007م الموافق 18 محرم 1428هـ