خطوط التماس الدولية الباردة هل ستبقى على حالها أم ستتحول إلى خطوط ساخنة؟ المرجح أن تبقى باردة دوليا كما كان حالها إبان فترة «الحرب الباردة» بين الاتحاد السوفياتي سابقا والولايات المتحدة. آنذاك كانت أوروبا هي مسرح «الحرب الباردة» بينما كانت دول العالم الثالث (أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا) هي مسرح الحروب الساخنة بين القوتين الكبريين. ويرجح أن يستمر هذا القانون الدولي السابق في الفترة المقبلة بعد ظهور معالم جديدة لتلك «الحرب الباردة» بين روسيا الاتحادية وأميركا.
أوروبا الآن تغيرت واختلف موقعها ودورها وتشكلت منها خريطة سياسية جديدة غير تلك التي كانت موجودة قبل 15 عاما. فأوروبا أصبحت أوسع جغرافيا وامتدت مساحتها السياسية لتشمل الكثير من الدول التي كانت محسوبة على «المعسكر الاشتراكي». وبسبب هذا النمو للقوة الثالثة أصبحت أوروبا في موقع جغرافي دقيق للغاية يضغط سياسيا على دول الاتحاد ويمنع القارة من التفريط بمكانتها الاقتصادية (الأولى عالميا) أو الانزلاق نحو مواجهات ساخنة.
أوروبا إذا ستبقى ساحة للحرب الباردة الأمر الذي يفتح احتمال انتقال خطوط التماس الساخنة إلى أمكنة أخرى في «العالم الثالث» كما كان حال هذه المنطقة في الفترة الفاصلة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وتفكك الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية في مطلع تسعينات القرن الماضي.
«العالم الثالث» بدوره اختلفت معالمه السياسية والاقتصادية التي كانت قائمة إبان فترة «الحرب الباردة» الأولى. وبالتالي فإن خطوط تماس «الحرب الباردة» الثانية ستختلف عن تلك السابقة. في الحرب الأولى انتشرت الحروب بالوكالة عن موسكو وواشنطن في جنوب شرق آسيا (كوريا، فيتنام، كمبوديا، ولاوس) ثم اقتربت إلى أفغانستان ودول الخليج (الحرب العراقية - الإيرانية) والمشرق العربي (لبنان)، إضافة إلى القرن الإفريقي. واحتلت فلسطين مركز الصراع الدائم من خلال العدوان الإسرائيلي على بلاد الأرز أو من تلك الاعتداءات الثابتة والمتكررة على دول الجوار العربي.
هذا المسرح العالمثالي تعدلت مساحته الجغرافية وصورته السياسية. والسبب أن مجال الصراع الساخن في منطقة جنوب شرق آسيا تقلص أو اختفت معالمه ولم يعد مصدر التوتر بين موسكو وواشنطن. كذلك مجال التوتر الساخن تقلص نسبيا في القرن الإفريقي بسبب نمو قوى محلية وإقليمية تلعب دور الضابط للاختراقات التي يمكن أن تحصل في تلك الدائرة الجغرافية المهمة.
هذه الدائرة تعتبر ممسوكة سياسيا ومحكومة بتوازن المصالح الدولية. فالولايات المتحدة لها موقعها ودورها، وكذلك الصين وإلى حد ما روسيا.
التعديل في مسرح العالم الثالث وتقلص مساحة الصراع الدولي الجغرافية يعني أن خطوط التماس الساخنة ستقتصر في الفترة المقبلة على ذاك المجال السياسي الحيوي الممتد من الهند إلى فلسطين وربما السودان.
مسرح الصراع ومركزه
الهند تعتبر قوة دولية صاعدة وهذا ما يفسر طبيعة ذاك التنافس بين روسيا وأميركا على كسبها. فالولايات المتحدة تعمل دائما على تقديم إغراءات وحوافز لنيودلهي كذلك تفعل موسكو. وبلغ الاهتمام بالهند درجة عالية حين اقترح الرئيس الروسي أكثر من مرة تشكيل قوة دولية ثلاثية تجمع الصين والهند وروسيا في جبهة سياسية واحدة.
موقع الهند قوي في مجال الصراع الدولي وهو سيحافظ على دوره في الفترة المقبلة وربما سيواصل صعوده في إطار المنظومة الإقليمية. المشكلة تبدأ بعد الهند أي من باكستان وأفغانستان وإيران وصعودا إلى دول بحر قزوين (النفط) وتركيا ونزولا إلى العراق والمشرق العربي (سورية، لبنان وفلسطين) وصولا إلى البحر الأحمر ودول الخليج العربية.
هذه المنطقة الجغرافية المهمة استراتيجيا والغنية بالثروات ستكون مركز الصراع الدولي وما يعنيه من خطوط تماس ساخنة بين القوى الكبرى. ويرجح أن يشكل هذا المجال الحيوي ذاك المسرح السياسي لتنافس الدول في فترة «الحرب الباردة» الثانية.
هذا المسرح أطلقت عليه الولايات المتحدة تسميات مختلفة في الآونة الأخيرة مثل «الشرق الأوسط الكبير» ثم «الشرق الأوسط الصغير» ثم «الشرق الأوسط الجديد» وأحيانا شعوب «مينا» أي «الشرق الأوسط» وشمال إفريقيا. وهذه التسميات على اختلافها وأنواعها تعني الشعوب العربية والإسلامية التي تعرف استراتيجيا بمنطقة هلال الأزمات أو قوس الأزمات التي تضم كل الدول الواقعة في إطار هذا المجال الجغرافي الحيوي.
مسرح الصراع في فترة «الحرب الباردة الثانية» تشكلت إذا حدوده السياسية لذلك يتوقع أن يشهد الكثير من السجالات الدولية التي سترسم خطوط تماسه الساخنة. ولكن المسرح المذكور يقوم على مجموعة توازنات لا تسمح القوى الكبرى باختراقها. باكستان وأفغانستان المحتلة من قبل «الحلف الأطلسي» وتركيا (عضو في الحلف الأطلسي) ودول بحر قزوين ودول الخليج العربية محسوبة سياسيا على الجانب الأوروبي - الأميركي في المعادلة الدولية مع نفوذ نسبي محدود لروسيا والصين. فهذه المنطقة مضمونة دوليا إلى حد كبير. المشكلة تبدأ في العراق والمشرق العربي وإيران. فهذه الدول غير مصنفة سياسيا فهي ليست روسية أو صينية أو أوروبية أو أميركية.
العراق طبعا هو الحلقة الأضعف. فهو كدولة شطب من المعادلة بعد الاحتلال الأميركي وتستعد واشنطن الآن إلى شطبه من الخريطة السياسية من خلال الترويج لفكرة الفيدراليات (المناطقية والمذهبية). وفي حال حصل هذا الأمر سيتقلص مسرح الصراع وسيقتصر على إيران والمشرق العربي. ويرجح أن تكون هذه الدائرة الجغرافية مصدر قلق وتوتر وتنافس في الفترة المقبلة من «الحرب الباردة الثانية». فهذه المنطقة غير محسوبة دوليا على هذا الجانب أو ذاك لذلك ستكون معرضة لاهتزازات أمنية أو ضغوط سياسية أو عقوبات اقتصادية للضغط عليها ودفعها للانحياز نحو محور من المحاور الثلاثة: الولايات المتحدة، أوروبا أو الصين وروسيا.
هذا التشكل الدولي بدأت محاوره بالظهور سياسيا منذ نحو ست سنوات ويرجح أن ترتسم معالمه الساخنة في الفترة المقبلة حين تبدأ دول مجلس الأمن بإعادة البحث في برنامج إيران النووي وبنود القرار 1737.
إيران إذا ستكون هي مركز الصراع الدولي خلال الفترة المقبلة ويرجح إن تشكل ذاك المسرح الجغرافي لاختبار فاعلية القوى ومدى تأثيرها وأهمية موقعها ودورها في رسم معالم «الشرق الأوسط» الذي ستكون ملامح صورته السياسية جديدة ومختلفة عن تلك الصورة القديمة التي ظهرت في فترة «الحرب الباردة الأولى».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1614 - الإثنين 05 فبراير 2007م الموافق 17 محرم 1428هـ