كمراهق يترعرع في فيينا، النمسا، حاليا، إنّ سقوط الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات لايزال مطبوعا في ذاكرتي كالحدث التاريخي الأبرز. مصنّفة بفجر «النظام العالمي الجديد»، إنّ تلك الفترة قد أعادت تشكيل توازن القوة ما بين الأمم وحدّدت الديناميات العالمية التابعة لما جاء بعد ذلك من أحداث (ومآسي) إقليمية وعالمية حتى هذا اليوم. في هذه الأثناء، كوني فلسطيني، وبشكل أساسي، إنني أتذكّر أيضا أنّ رياح التغيير قد عصفت عن قصد بإتجاه آخر قريب إلى الموطن وقريب إلى القلب. لقد عُقد مؤتمر مدريد للسلام بتاريخ 30 أكتوبر/ تشرين الأول 1991، وبالتالي تم التصريح عن مآربنا الوطنية (الفلسطينية) للمرة الأولى منذ النكبة على أوسع نطاق ممكن. ضمن إطار النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، كان ذلك بحدّ ذاته تاريخيا بقدر ما كانت نهاية الحرب الباردة.
اليوم، وبعد مرور أكثر من 15 سنة على مدريد، يجد الفلسطينيون أنفسهم عالقين تماما بين التهديد الجلي الذي يشكّله النزاع الداخلي وبين الاحتلال الإسرائيلي المطوّل الذي تضاعف شكلا وحجما منذ العام 1991. في إحدى أكثر الأوقات قساوة، أصبح حلم إنشاء دولة فلسطينية مستقلة أمرا بعيدا ومبهما في أعيننا.
إنّ الانقسام القومي، خصوصا بعد الانتخابات الثانية للمجلس التشريعي الفلسطيني في يناير/ كانون الثاني 2006، قد صعّد التصادمات السياسية بين فتح وحماس وهو يحذو تدريجيا حذو النموذج الكوارثي الذي يقتضي المواجهة العسكرية المباشرة على حساب الدم الفلسطيني. من جهتها، تستمر إسرائيل من دون توقّف في إستعمار ما تبقّى من فلسطين (الأراضي التي احتلتها بطريقة غير شرعية منذ حرب يونيو/ حزيران 1967)، من خلال احتجاز قطاع غزة وبناء وتوسيع المستوطنة، وبناء حائط الاحتلال الخاص بها، وفرض تعديلات ديمغرافية في الضفة الغربية، وبالتالي خلق وقائع دائمة على الأرض واستباق نتيجة المفاوضات حول الأوضاع النهائية، بصرف النظر عن تقليص احتمالات استعادتها كليا.
أخيرا، لقد أصبح الفلسطينيون معزولين دبلوماسيا واقتصاديا، ومهمّشين سياسيا، وذات أمل محدود بتحقيق السلام والتحرير.
فقد كان بالتالي استخدام الفلسطينيين لمؤتمر مدريد 15 بشعور من المرارة ونوع من الاشتياق إلى الماضي، هذا المؤتمر الذي عُقد في أوائل هذا الأسبوع بمشاركة ممثلين من فلسطين وإسرائيل والأردن ومصر وسوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية بالإضافة إلى الشخصيات الأوروبية والأميركية. تم عقد المؤتمر يوم الجمعة مع العزم على إحياء عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية خلال النصف الأول من العام 2007، ومع تجدّد الالتزام بالحلّ المقتضي إنشاء دولتين كونه الحل الوحيد الممكن لإنهاء النزاع.
ومع ذلك، إنّ ما يجذب اهتمام الفلسطينيين إلى مؤتمر مدريد 15 هو أكثر من مجرّد حنين. إنّ عملية السلام التي أُطلقت العام 1991، التي سبقت اتفاقات أوسلو، قد أُنشئت على تحليل منطقي لأسباب النزاع مع إشارة واضحة إلى قانونية وشرعية المآرب القومية الفلسطينية. كما أنه طرح احتلال «إسرائيل» للضفة الغربية وقطاع غزة كواقع كلّي، بما يتعارض مع ما لحقه، من خلال اتفاقات أوسلو: اتفاقات خاصة بتفاصيل مقسّمة (حواجز العبور، الحدود، الأمن، الأسرى، إلخ).
ربما يتمثّل الأمر الأهم بأنّ العناصر التي خلقت الزخم للموقف الفلسطيني في مؤتمر مدريد الأول هي التي ضمنت النجاح النسبي للعملية كلّها، ولو كان نجاحا قصير الأمد. يبلغ عدد العناصر اثنين:
1. إنّ الوحدة القومية الفلسطينية والقاعدة الشعبية التي دعمت المفاوضات شكّلت سبيلا لشرعية مؤتمر مدريد للسلام. خلافا للسرّية التي ميّزت اتفاقات أوسلو، وبمعزل عن أي مصداقية وتقصّي من قبل الرأي العام الفلسطيني، تم عقد مدريد في جو من الشفافية والوضوح، الأمر الذي أكّد دعما فلسطينيا واسعا.
2. حاصلة على دعم منظمة التحرير الفلسطينية (التي تم نفيها لاحقا)، تضمّنت البعثة الفلسطينية إلى مدريد قادة بارزين من الأراضي المحتلّة تمتّعوا بمعرفة قوية للمسائل وثقة من قبل الشعب الفلسطيني. فقد كانوا أساتذة جامعات وقادة وناشطين من المجتمع المدني على غرار الدكتورة «حنان عشراوي»، الدكتور «حيدر عبدالشافي» والمرحوم «فيصل الحسيني»، من بين الآخرين الذين قادوا المشروع الفلسطيني الأول من المقاومة المسلّحة نحو الحوار السياسي في مواجهة محتلّيهم. فقد بدت لحظة النصر التامة إذ إنّ الأسرى السياسيين السابقين والهاربين من قادة الطبقة العاملة كانوا يجلسون وجها لوجه مع مضطهديهم، متساوين.
من المتوقّع أن تتحقق تصريحات جميع الأطراف في المؤتمر الأخير في إسبانيا خلال الأشهر المقبلة وتدخل أروقة السلطة؛ في الواقع، إذا ما تم ذلك، لا يمكن أن نثق إلاّ بمدريد بعد الآن.
*مدير برنامج الإعلام والأخبار في المبادرة الفلسطينية لتشجيع الحوار العالمي والديمقراطية
والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1614 - الإثنين 05 فبراير 2007م الموافق 17 محرم 1428هـ