طلب الرئيس الأميركي جورج بوش من الكونغرس المنتخب في دورته النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي الموافقة على برنامجه الدفاعي وخطته الأمنية في العراق وأفغانستان للسنة المقبلة. وتقترح سياسة الرئيس على الكونغرس أن يوافق الأعضاء على مشروعين: الأول زيادة موازنة الدفاع بنسبة عشرة في المئة. والثاني إقرار موازنة تغطية نفقات الحرب في العراق وأفغانستان.
الزيادة الأولى للعام 2008 تقضي رفع موازنة الدفاع إلى 427 مليار دولار لتصبح الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة والعالم. بينما الموازنة الثانية اقترحت إنفاق 99 مليارا على الحرب لتغطية كلفة الفصل الأخير من سنة 2007 إضافة إلى سنة 2008 التي تنتهي ماليا في نوفمبر.
هذا الطلب الرئاسي يدرسه الكونغرس الذي يسيطر عليه الآن الحزب الديمقراطي. والطلب يتعارض مع توجهات الديمقراطيين السياسية والإنفاقية. فالحزب يعترض على سياسة بوش الخارجية ويرى أنها عطلت الكثير من المصالح الأميركية وأرهقت خزانة الدولة ولم تخفف من المخاطر الأمنية. كذلك يتهم الديمقراطي الرئيس بوش أنه أفرط في نزعته الأمنية وأعطاها الأولوية في برامجه على حساب قطاعات التنمية والخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية والفروع المدنية في الصناعة الأميركية. ومنذ اكتساح الديمقراطي غالبية مقاعد الكونغرس أثار الحزب الكثير من الملاحظات على نهج الرئيس واتهمه بإهمال القضايا الداخلية التي تمس حياة المواطن وطموحاته المعيشية بينما أولى القطاعات النفطية والعسكرية عنايته الخاصة من خلال التوظيفات المالية أو طلبات شراء الأسلحة بسبب الحروب الدائمة التي خاضها خلال فترة رئاسته.
المنطق يفترض أن تحصل معركة سياسية حادة بين الطرفين. وتعتبر هذه المعركة هي الأولى من نوعها وتعطي فكرة واضحة عن السياسة الأميركية في فترة السنتين المقبلتين. الرئيس بوش لا يعاني من مشكلة الإنفاق المالي على موازنة الدفاع للعام الجاري كذلك لا مشكلة لديه في تغطية نفقات الحرب في العراق وأفغانستان من الآن حتى نوفمبر المقبل. فالرئيس استدرك الموقف قبل الانتخابات النصفية بشهرين حين طلب من الكونغرس السابق الذي يسيطر عليه الجمهوريون الموافقة على الموازنة ونفقات الحرب ونال تصويت الأكثرية وأمّن التغطية لنهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
مشكلة الرئيس تبدأ في نوفمبر؛ لأنه لا يستطيع أخذ القرار من دون موافقة كونغرس يسيطر عليه الديمقراطيون. ومن الآن حتى اقتراب الموعد لابد من مراقبة تفصيلات المواقف وما سيرافقها من تشنجات وتجاذبات بين الحزبين. وسيكون طلب الرئيس بزيادة موازنة الدفاع وتغطية نفقات الحرب على رأس جدول الأعمال وسيكشف أمام الرأي العام والناخب ودافع الضرائب من هو الأقوى في معادلة القرار السياسي. بوش سيحاول جهده استخدام صلاحياته الرئاسية القوية وموقعه الرمزي رئيسا للدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة أنه لايزال في مركز الأقوى ويستطيع أخذ المبادرات وتحمّل مسئولياتها من دون حاجة إلى دعم غالبية أعضاء الكونغرس. والحزب الديمقراطي سيكون في موقع المدافع عن برنامجه وسيضطر إلى توضيح وجهة نظره وإقناع الجمهور الأميركي بأن الإنفاق الدفاعي والعسكري تجاوز الحدود ولم يعد بإمكان الخزانة تحمّل المزيد من الإرهاق.
المنطق يفترض حصول معركة سياسية في الكونغرس بين الحزبين. الرئيس سيبذل جهده لتمرير الموازنة والنفقات الإضافية لأن مستقبل سياسته يرتبط بتلك الاستراتيجية الهجومية التي اعتمدها خلال السنوات الست الماضية. وفي حال فشل في إقناع الكونغرس بتلك السياسة فسيضطر إلى استخدام صلاحياته الاستثنائية بتجاوز تصويت الكونغرس آخذا على عاتقه كل المسئوليات. وإذا قرر الرئيس اللجوء إلى هذه التكتيكات يكون عمليا دخل في مغامرة قوية قد تلزمه تقديم توضيحات والخضوع إلى تحقيقات تكشف عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الرفع الدائم للموازنة الدفاعية.
الحزب الديمقراطي سيكون أيضا في موقف صعب. فهو من جهة يريد الدفاع عن برنامجه وتمرير قرارات تتكيف مع تلك الوعود التي قدمها إلى الناخب، ومن جهة لا يريد الاصطدام مع قطاعات النفط ومؤسسات التصنيع الحربي والظهور أمام الناخب أنه لا يكترث بمصير الجيش الأميركي والقوات المنتشرة في العراق وأفغانستان والعالم. وهذا الموقف الصعب يحرج الديمقراطي لأن التهرب من النقاش يضعفه انتخابيا والموافقة على طلب الرئيس تظهره في موقع الهزيل والطرف غير القادر على الدفاع عن برنامجه وعن سياسته.
معركة صعبة
الارتباك المذكور يتوقع حصوله. ولعل هذا ما دفع بوش إلى الإسراع إلى تقديم طلب الزيادة والموافقة على نفقات الحرب. فالرئيس يريد حشر الديمقراطي واستدراجه إلى معركة سياسية مبكرة تتعلق بالدفاع والأمن والخطر الإرهابي على حياة المواطن واستقراره وغيرها من شعارات وطنية تمس المشاعر والأحاسيس والمخاوف المختلقة والهواجس المصطنعة. ومثل هذه الشعارات لا يستطيع أي فريق تجاهلها أو التعامل معها بخفة. وهذا ما يريد أن يفعله بوش قبل أن يتمكن الديمقراطي من الإمساك بقوة بقرارات الكونغرس.
الحزب الديمقراطي أمام تحد صعب. فهذه المواجهة المفترضة منطقيا تعتبر الأولى من نوعها وهي أول امتحان في التجربة السياسية. في السابق كانت الاعتراضات على سياسة الحزب الجمهوري انتخابية ودعائية وتتم خارج المؤسسات ومن دون حرج. الآن أصبح الديمقراطي في موقع المسئولية وبات عليه دراسة كل خطواته والرد بعناية على كل فكرة أو اقتراح أو طلب يتقدم به الرئيس.
كيف سيتعامل الديمقراطي مع طلب الرئيس؟ هذا هو السؤال. لأن كل جواب يعطي إشارة لتلك السياسة المتوقعة للولايات المتحدة في السنتين المقبلتين. مثلا إذا وافق الكونغرس على طلب الرئيس من دون رد أو تعديل فمعنى ذلك أن الديمقراطي انكشف انتخابا وظهر أمام الناخب رديفا سياسيا للاستراتيجية الأميركية المتبعة. وإذا رد الكونغرس الطلب فمعنى ذلك أن الرئيس أمام خيار صعب إما أن يأخذ المسألة على عاتقه ويتحمّل وحده مسئولياتها وتداعياتها وإما أن يقبل الأمر الواقع ويبدأ التفكير وإعادة النظر في استراتيجيته العسكرية وإفراطه في الإنفاق على الدفاع وتحفيز قطاعات النفط ومؤسسات التصنيع الحربي. وإذا نجح الكونغرس في تعديل الطلب ورفض الزيادة وقلل من الإنفاق على الحرب فمعنى ذلك أن هناك تسوية ضمنية بين الحزبين تقضي بالتنازل من الجهتين لمنع التصادم وتمرير ما تبقى من ولاية بوش من دون مواجهات.
أي وجهة يأخذها الديمقراطي تعطي فكرة موجزة عن السياسة الأميركية في الفترة المقبلة. والمقياس في هذا السياق يعتمد كثيرا على طبيعة تعامل الكونغرس مع طلب الرئيس. فالطلب مفصلي ويعتبر التحدي الأول في امتحان طويل وصعب. وكل قرار يدفع الأمور الدولية و «الشرق الأوسطية» إلى هذا المستوى أو ذاك. فالموافقة تعني الاستمرار في الحرب إلى نهاية عهد بوش في العام 2008. والتعديل يعني إعطاء فترة سماح لرئيس يعاني التخبط والفوضى وعدم وضوح في الرؤية الاستراتيجية. ورد الطلب يعني أن الرئيس مجبر على استخدام صلاحياته الاستثنائية أو أخذ قرار بالانسحاب من العراق أو تجميع القوات قبل شهر نوفمبر لأن الموازنة ستكون شارفت على نهايتها.
طلب الرئيس بوش من الكونغرس الموافقة على الزيادة وتغطية النفقات يعني أن واشنطن قررت الإسراع في خوض التجربة مع الغالبية الديمقراطية. فالمعركة قوية وهي ستكشف عن مدى التزام كل فريق ببرنامجه والاستعداد للتضحية من أجل جمهوره ووعوده. بوش يريد الدفاع عن إدارته مستخدما شعارات أمنية وقومية ومستندا إلى دعم قطاعات النفط والتصنيع الحربي. والديمقراطي يريد الدفاع عن برنامجه مستخدما شعارات مدنية واجتماعية وتنموية، ولكنه لا يريد الظهور بموقف غير المكترث بحياة المواطن والجندي. هناك إذا معركة وفي ضوء نتائجها يمكن رؤية الكثير من الأمور.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1613 - الأحد 04 فبراير 2007م الموافق 16 محرم 1428هـ