واجهت القيادة البريطانية في الشهر الماضي أسئلة جدية عن دورها في تقدُّم التنمية الدولية. كان قرارٌ واحدٌ كافيا لنقض كل شيء إيجابي تقريبا قامت به بريطانيا حتى الآن. ما هو معرّض للخطر الآن هو قدرة القيادة البريطانية على إقناع الآخرين بإلغاء ديون «العالم الثالث» البغيضة، وقدرتها على العمل على زيادة مساعدات التنمية الخارجية من أغنى شعوب العالم، وفي حملتها لإيجاد المساءلة والحكم الرشيد في مجالات العمل وحقوق الإنسان الأوسع والأمن البيئي.
هذا العمل المفرد كان، طبعا، قرار المدعي العام البريطاني بوقف التحقيق الذي يقوم به مكتب مكافحة الاحتيال عن الفساد المزعوم في مفاوضات وتنفيذ عقود بين شركة بي. إيه. إي. وحكومة المملكة العربية السعودية. أريد أن أكون واضحا فالذنب هو اختصاص أساسي لمكتب مكافحة الاحتيال. إلا أن التدخل الحكومي في عمل هذا المكتب يلقي بظلال من الشك على مدى استقلاليته ومدى التزام الحكومة بالشفافية والمساءلة.
الحقائق معروفة جيدا، لذلك فإنني لن أكررها بأي قدر من العمق هنا. من جهة كان هناك عقد تجاري ضخم لتوريد معدات عسكرية كانت له، حتى الوقت الذي تدخل فيه مكتب مكافحة الاحتيال، كل الاحتمالات بأنه سيحقق فائدة اقتصادية لبريطانيا، وفائدة تجارية لـ «بي. إيه. إي.» وفائدة أمنية للمملكة العربية السعودية ومواطنين آخرين في المنطقة. وقد قيل لنا إن خسارة العقد قد جعلت 100.000 مواطن بريطاني يفقدون وظائفهم، وهذا فشل ينبغي ألا يستهان به في ضوء الاضطراب الاجتماعي والتعاسة الشخصية والعائلية التي قد تنجم عن وضع كهذا. إضافة إلى ذلك فإن إلغاء العقد كان من شأنه إلحاق أضرار خطيرة بالمصالح التجارية لـ «بي. إيه. إي.» وعدد من الشركات المرتبطة بها. وقد بدا ذلك واضحا من حقيقة أن مؤشر الفايننشال تايمز للأسهم في البورصة البريطانية تفاعل إيجابيا مع قرار المدعي العام بإلغاء التحقيق، إذ حقق المؤشر أرقاما عالية جديدة.
تتضح المعاني الأعمق لقرار الحكومة البريطانية إذا نظرنا إليه من وجهة نظر أولئك الذين ضحوا بحياتهم في بلدان أخرى في سبيل مكافحة الفساد.
لقد قررت الحكومة البريطانية إلغاء تحقيق جنائي بسبب «مصالح وطنية» يمكن - كما قيل لنا - التذرع بها دستوريا لتجاوز سيادة القانون. سواء كان قد تم التوصل إلى هذا القرار من باب التشكيك الساخر أو بسبب إحساس معنوي وواجب وطني فإنه ألحق ضررا كبيرا بعمل كثير من الناس في جميع أنحاء العالم ممن يلتزمون بمكافحة الفساد وتشجيع الحكومات والمؤسسات التي تخضع للمساءلة. أيّ مرجع ومثال أفضل بالنسبة إلى السياسيين ورجال الأعمال الفاسدين في سائر أنحاء العالم، إذ يصبح بوسعهم الاستشهاد بـ «المصالح الوطنية البريطانية» في تبرير المحاباة والمحسوبية أو الرشوة الفاجرة المباشرة!
يتخذ هذا القرار الخاطئ مكانه إلى جانب الأخطاء البارزة الأخرى في الذاكرة القريبة والتي تقوض صدقية الغرب كعامل للإصلاح في العالم النامي: مشروعكم في إفريقيا غدا ميتا كأنه لم يولد أبدا؛ والجهود لإقناع الشركات والحكومات للمصادقة على مبتكراتِ مساءلةٍ مهمة مثل مبادرات الشفافية في الصناعات الاستخراجية (وربما كيوتو أيضا) قد أصبحت أكثر صعوبة بكثير إن لم تكن مستحيلة؛ وصوتكم الأخلاقي الدولي، سواء كان يتعلق بروسيا أو الصين أو معاملة الولايات المتحدة للإرهابيين المشتبه فيهم، فَقَدَ صداه.
وليس هذا كل شيء، فبريطانيا جزء من نادي النخبة في «المجتمع الدولي» الذي يؤثر على الأجندات المحلية والإقليمية ونتائجها. هذا المجتمع الدولي، على رغم كل عيوبه، كان عنصرا مهما للغاية في كل حملة مساءلة كبرى تم شنها في بلدان العالم. لقد تضرر هذا المجتمع أصلا بشدة بسبب غزو العراق وبسبب رمز التعددية الذي جرى إضعافه، وهو الأمم المتحدة. لقد ألحق سلوك بريطانيا ضررا عميقا بالمجتمع الدولي بكامله وأضعف قدرته على التحدث بصدقية وقدرة الآخرين على الإصغاء على حد سواء.
تخيل سيناريو آخر يفيق فيه العالم على أنباء مفادها أن الحكومة البريطانية اختارت الاستمرار في التحقيق، وأنها تقدم أسفها لـ «بي. إيه. إي» وعملائها في الشرق الأوسط، ولكنها تعيد، نيابة عن الشعب البريطاني، تأكيد رغبتها في إدامة القيام بدور قيادي عالمي في الوقوف ضد الفساد وكل ما يتفرع عنه سواء في الداخل أو في الخارج. لو حصل ذلك فسينهض من دون شك الكثير من القادة في قطاعات السياسة والأعمال والمجتمع المدني للتصفيق لهذا القرار ولتأكيد أنهم لم يعودوا يتحملون مقولة «الأعمال تجري كالمعتاد».
الواقع أن الموافقة المدوية التي كانت ستأتي من أطراف كثيرة أخرى قد تفتح صفحة جديدة في الدور الدولي لبريطانيا في العالم وربما في الوقت المناسب. إني أشارك الآخرين قلقهم على مصير الأشخاص الذين قد يفقدون وظائفهم، إذا دخل الفرنسيون، كما يشاع، على الخط لاقتناص الفرصة. ليس ثمة اعتذار هنا يساوي قيمة الورق الذي تمت كتابته عليه، وأود فقط أن أحث الحكومة البريطانية على استخدام الموارد المتاحة لإحدى أغنى البلدان في العالم لتعويض ومساعدة العائلات والمجتمعات المتضررة.
*نائب رئيس وزراء ماليزيا السابق، وهو أستاذ زائر في جامعة جورج تاون في واشنطن العاصمة، والرئيس الفخري للمنظمة غير الحكومية «أكاونت - أبيليتي AccountAbility»، ومقرها في لندن. وهذا المقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 1613 - الأحد 04 فبراير 2007م الموافق 16 محرم 1428هـ