التناحر الدموي الذي اخذ يمزق الجبهة الداخلية الفلسطينية يبدو أنه وصل إلى منطقة الحرام بعد ان بالغ كل فريق بقوته معتبرا ان الطرف الآخر يريد عزله أو تصفيته أو محاصرته. وضحايا التناحر بين حماس وفتح هم في النهاية شهداء قضية عربية وصلت في مختلف مراحلها إلى درجة القداسة في برامج الأحزاب وايديولوجياتها. وما يحصل في ارض فلسطين يعتبر مفارقة في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، وعلامة سلبية تؤشر على عقل سياسي شارف الانحطاط في تراجعه.
لمصلحة من يحصل الاقتتال؟ ومن هو المستفيد منه؟ ولماذا تقع مواجهة بين فريقين تقاسما السلطة؟ وهل تلك الحوادث تعود بالفائدة على الناس وتخدم القضية؟ أسئلة سخيفة ويمكن وضع عشرات الأسئلة والاستفهامات بشأنها. وفي النهاية لا جواب. فكل الأجوبة غير مقنعة وهي ستكون سخيفة كالأسئلة.
لمصلحة من يحصل الاقتتال؟ بالتأكيد ليس لمصلحة حماس أو فتح. ومن هو المستفيد؟ بالتأكيد العدو الصهيوني المدعوم أميركيا. ولماذا تقع المواجهة؟ بالتأكيد ليس دفاعا عن القضية. وهل تعود الحوادث الدموية بالفائدة على الناس؟ طبعا لا بل انها تزيد القرف والاشمئزاز والقنوط واليأس.
الأسئلة إذا سخيفة، كذلك الأجوبة. فالجواب معروف وهو لا يستحق عناء التفكير لأنه تافه مثل السؤال. وإذا كان هذا هو وضع الأسئلة والأجوبة ماذا يمكن القول عن قيادتي حماس وفتح. فهل من المعقول ألا تكون قيادات الحركتين طرحت مثل هذه الأسئلة والأجوبة؟ وهل يمكن منطقيا افتراض قلة التفكير في الحركتين إلى حد أنهما لم تطرحا مثل تلك الأسئلة وتتوصلا إلى مثل هذه الأجوبة؟ بالتأكيد لا. فحماس مهما بلغت حد البله السياسي لابد أنها فكرت في الموضوع وافترضت منطقيا احتمال طرح مثل هذه الأسئلة والأجوبة. كذلك فتح فهي مهما بلغ بها حد الانحطاط السياسي فإنها لابد ان تكون أخذت في حسابها طرح هكذا أسئلة ولابد ان تكون أيضا توصلت في مراجعاتها إلى مثل هكذا أجوبة.
إذا كان هذا هو واقع الأمر فلماذا إذا توجهت حماس إلى أخذ قرار الاقتتال؟، كذلك لماذا سلكت فتح طريق المواجهة الدموية؟ فإذا كانت حماس تعرف الأسئلة والأجوبة وكذلك فتح، فما هي الدوافع التي تقف وراء شن مثل هذه الحملات المتبادلة؟ وهنا بالضبط يبدأ التساؤل وطرح علامات الاستفهام. فهل السلطة مغرية إلى هذا الحد، حد التطاول على الناس وإهانة مشاعر الشعوب العربية وزعزعة ثقة الأمة بقضية تعتبر القبلة الثانية في بوصلة التاريخ الحضاري للمنطقة؟ وهل المال يصنع بالبشر تلك العجائب والتحولات ويزرع الفتن ويدفع الناس نحو الاصطفاف والتقاتل باسم القضية وعلى حسابها؟ وهل السياسة في دائرة التطبيق اليومي تؤدي إلى مغادرة المبادئ والسعي نحو مكاسب رخيصة وآنية؟ وهل من الممكن ان تكون «إسرائيل» وراء هذا التجييش حتى ترتاح من المقاومة من خلال اقتتال أهل المقاومة؟ وهل يمكن أن نصدق ان الولايات المتحدة خططت لهذا النوع من التناحر لضمان أمن «إسرائيل» وتبرير استمرار الاحتلال؟ وهل ان الضغوط الدولية والإقليمية والاحتقان الداخلي كلها عناصر ساهمت في توليد أحقاد غير مبررة وأعطت ذرائع لسحب السلاح إلى الداخل وتوجيهه ضد الأحياء المدنية؟ وهل ما نراه من مشاهد محزنة له منطقه الخاص واسراره وخفاياه وبالتالي لابد من أخذه كما هو والقبول به من دون شرح أو تفسير أو تأويل. وهل ان المشاهد العربي ليس من حقه ان يعترض أو ينفجر غضبا ويقبل بالاقتتال من دون سؤال؟
المسألة فعلا تطرح علامات استفهام. فحماس تعرف ان ما تقوم به لن يخدم القضية ولن يكسبها العطف والتضامن. وفتح أيضا تعرف تماما ان سلوكها المشين هذا سيثير التشويش على تاريخها النضالي وكفاحها الطويل من أجل فلسطين. وإذا كانت حماس وفتح تدركان سلفا ان هذا النوع من التناحر الدموي سيجلب اللوم والعتاب وربما العقاب، لماذا إذا تذهبان معا إلى الجحيم؟
أسئلة ليست صعبة ولا تحتاج إلى تفكير لتقديم أجوبة بشأنها، ومع ذلك لابد من طرحها حتى يعطى المشهد الدموي ذاك الجانب الخفي من الصورة. والمصيبة في الصورة الفلسطينية أنها تشجع القوى السياسية في المنطقة على السير في شظاياها. فالمشهد في غزة والضفة له قوانينه وآلياته الخاصة إلا أنه ليس بعيدا عن تلك الصور المحزنة التي نراها تظهر وتختفي في بيروت وبغداد. فالمشاهد واحدة حتى لو اتخذت في كل مكان طابعها المحلي. فالمنطق مشترك والنتيجة متشابهة حتى لو تفرقت الأسباب وتنوعت عناصر الصورة.
ثلاثة مشاهد
نحن الآن أمام ثلاثة مشاهد سياسية تعطي فكرة مكثفة عن التحولات المتوقعة في منطقة «الشرق الأوسط». الأول في فلسطين، والثاني في لبنان والثالث في العراق.
المشاهد الثلاثة مخيفة في وقائعها اليومية وتوقعاتها المستقبلية. في فلسطين وصل التقابل بين حماس وفتح إلى طور التناحر الدموي إذ يقوم كل فريق باجتياح منطقة نفوذ الآخر فيدمر المؤسسات ويحرق الجامعات ويتلف المعاهد ويقتل ويجرح ويعود للانتشار في الشوارع فيخطف أو يزرع الرعب في قلوب الناس وينغص حياة الآمنين. وفي لبنان وصل الاستنفار الأهلي إلى درجاته القصوى وتحول في لحظات إلى نوع من الاقتتال الذي ترافق مع اقتحامات وترويع وتمزيق صور وإعادة تركيبها وقنص من السطوح وحرق أندية رياضية ونهب معاهد وتحطيم محلات وسيارات وتكسير واجهات مصارف وغيرها من أفعال لا تبشر بالخير في حال استمر الهياج الشارعي وتحريض الناس وتعبئة الأجواء بالسباب والشتائم والتخوين.
وفي العراق يبدو الاقتتال الأهلي يسير وفق منهجية مبرمجة يدفع الناس إلى مزيد من البؤس واليأس ويعرض أمنهم للخطر ويضغط عليهم للانتقال إلى مناطق آمنة بحثا عن عيش خاص يتأقلم مع هوية الجماعة ويتجانس مع طبيعتها المذهبية أو الطائفية أو المناطقية. فالعراق الذي يسير نحو الأسوأ توقع التقرير الأخير الصادر عن أجهزة المخابرات المركزية الأميركية أنه يتجه نحو أسوأ من «الحرب الأهلية». وتهمة «الحرب الأهلية» نفتها مرارا إدارة جورج بوش واعتبرتها سابقا من الشائعات الكريهة التي تروج لها الصحافة. الآن كما يبدو أخذت إدارة بوش تغير رأيها وبدأت تعترف بوجود عناصر أو مؤشرات لحرب «أهلية». والالعن من هذا الاعتراف المتأخر ان إدارة الاحتلال أخذت تتعامل مع المسألة وكأنها من الأمور الواقعية وربما من الحلول البديلة التي يمكن المراهنة عليها في حال فشلت في ضبط الأمن قبل نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني.
أسئلة أخرى: هل هناك من رابط يجمع المشاهد الثلاثة في صورة واحدة؟ هل السيناريو الأميركي النظري الذي يعتمد استراتيجية تقويض «الشرق الأوسط» دخل مرحلة التنفيذ؟ وهل الجامع بين العراق ولبنان وفلسطين هو ذاك الخيط الرفيع الذي يريد خنق المنطقة من خلال اقتتال أهلها؟
الأجوبة لاشك ستلحظ تلك الاختلافات في عناصر ودوافع وأسباب انفجار كل مشهد. في فلسطين التناحر يقوم على مبادئ سياسية تقسم الحق إلى حقين. وفي لبنان التقابل يقوم على خلطة لبنانية تجمع المبادئ مع الطوائف والمذاهب وتقسم الجماعات الأهلية إلى جبهتين. وفي العراق يتصاعد الاقتتال الأهلي إلى حدوده القصوى وصولا إلى احتمال نشوب «حرب أهلية» أخذت أجهزة المخابرات الأميركية تبشر الأمة بها.
تلاوين الاختلاف في مشاهد الصور متنوعة، إلا أن هذا التعدد يشير إلى ذاك الرابط الذي يجمع الثلاثة في سياق واحد: «تقويض الشرق الأوسط».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1612 - السبت 03 فبراير 2007م الموافق 15 محرم 1428هـ