تراجع الرئيس الفرنسي جاك شيراك عن تصريحات أدلى بها إلى الصحافة بشأن الملف النووي الإيراني. فالرئيس الفرنسي قلل من أهمية امتلاك طهرن قنبلة أو قنبلتين نوويتين، معتبرا أن ذلك لا يقدم أو يؤخر في موازين القوى لأن إيران لن تقوى على استخدامها لسبب بسيط وهو أنها ستكون مهددة بالزوال عن الخريطة.
هذا التصريح أثار «رعب» تل أبيب وغضب واشنطن لأنه فسر أنه موافقة ضمنية على حق إيران بامتلاك السلاح النووي. بعد ذلك دعا شيراك إلى مؤتمر صحافي أوضح فيه ملابسات تصريحه مؤكدا رفضه البرنامج النووي الإيراني والتزامه بالشرعية الدولية والقرار 1737.
التراجع الأخير ليس الأول من نوعه في الشهرين الماضيين. قبل ذلك تسربت من باريس معلومات تشير إلى وجود اتصالات مع طهران بشأن الملف النووي ودورها الإقليمي في العراق ولبنان وفلسطين. وجاءت المعلومات على خلفية تقرير بيكر - هاملتون الذي ينصح الإدارة الأميركية بإجراء اتصالات مع دول الجوار بما فيها سورية وإيران لمعالجة الملف العراقي واحتواء العنف في المنطقة. بعد ذلك تسربت معلومات تقول إن فرنسا عزمت إرسال «موفد خاص» إلى طهران للبحث مع القيادة الإيرانية مجموعة ملفات منها الموضوع النووي ومسألة العراق ومشكلات لبنان. إلا أن باريس تراجعت عن الموقفين وجددت ثقتها بالقرار الدولي وطالبت طهران بالالتزام بكل فقراته حتى لا تواجه عقوبات إضافية.
هذا التذبذب في المواقف الفرنسية يعكس بهذه النسبة أو تلك تجاذبات دولية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فالرئيس شيراك تميز في سياسته الخارجية عن واشنطن واتخذ سلسلة مبادرات مستقلة وأحيانا معاكسة للتوجهات الأميركية. فهو مثلا قاد حملة الاعتراض على الحرب الأميركية على العراق وشكل موقفه منذ العام 2002 إلى العام 2004 نقطة توتر في العلاقة مع واشنطن بسبب نجاحه في تشكيل قوة ضغط دولية رباعية (ألمانيا، روسيا، الصين، وفرنسا) ترفض الحرب وما أسفرت عنه من تداعيات محلية وإقليمية ترافقت مع تهديدات لدول الجوار وصلت إلى حد الإعلان عن تغيير خرائط وأنظمة وسياسات.
استمر التجاذب الدولي الفرنسي - الأميركي على العراق و«الشرق الأوسط» إلى حين موعد الانتخابات الرئاسية في لبنان صيف 2004. وأدت مخالفة الدستور والتجديد القسري للرئيس إميل لحود لنصف ولاية إلى تحسن في العلاقات الفرنسية - الأميركية إذ توافقت باريس وواشنطن على إصدار قرار خطير حمل الرقم 1559.
شكل القرار المذكور نقطة تحول في علاقات شيراك بالرئيس الأميركي وبدأت منذ تلك الفترة تتشكل في الأفق سياسة مشتركة تنسق وجهات النظر وتحد من ذاك التباعد بين الدولتين. فأميركا قللت من حملتها السياسية على شيراك وهي حملة إعلامية وصلت إلى حد التشهير بالإنتاج الفرنسي ودعوة الناس إلى مقاطعة الطعام والنبيذ والأجبان الفرنسية. وشيراك أيضا خفف من حملاته التشهيرية ضد أميركا وأخذ يتقارب مع الرئيس جورج بوش من دون أن يتخلى عن ملاحظاته بشأن موضوع الحرب على العراق.
آنذاك كانت واشنطن في وضع دولي صعب. فالإدارة مرت بشبه عزلة نتيجة مخالفتها للشرعية الدولية وتفردها بقرار الحرب والاستيلاء على دولة مستقلة وذات سيادة بذرائع تبين لاحقا أنها كاذبة. لذلك وجدت إدارة بوش في الموقف الفرنسي من لبنان مناسبة لفك العزلة وتحسين السمعة الدولية باستخدام باريس بوابة عبور. وتحت سقف التفاهم على معالجة الملف اللبناني تطور التنسيق الفرنسي - الأميركي وتحولت السياسة الدولية إلى قوة ضغط على بلاد الأرز بسبب شمول القرار 1559 مجموعة نقاط حساسة تزعزع استقرار البلد الصغير.
ثنائية متوترة
شكل التنسيق الفرنسي - الأميركي بؤرة توتر في لبنان لأن هذا البلد خضع إلى نوع من الرقابة الدولية اليومية وبات مطالبا بتنفيذ فقرات قرار لا تقوى الدولة على تنفيذها.
وفي هذا الجو الملبد بالغيوم جرى اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 فبراير/ شباط 2005. الحريري صديق شيراك ومشروعه في بناء الدولة يمثل ذاك التقاطع الفرنسي - العربي في لبنان.
أدت جريمة الاغتيال إلى فوضى عارمة في لبنان فانقسم البلد إلى «8 آذار» و «14 آذار» وانتهى الموضوع مؤقتا بإعلان دمشق قرارها الاستراتيجي بالخروج العسكري من بلاد الأرز.
إعلان الخروج السوري من لبنان قلب المعادلة وغير قواعد اللعبة إلا أن الثنائي الفرنسي - الأميركي استمر في الضغط على الدولة لاستكمال ما تبقى من فقرات 1559 ومنها سحب سلاح حزب الله وإرسال الجيش إلى الجنوب.
التنسيق الفرنسي - الأميركي في لبنان انعكس على مجمل المواقف الثنائية في المنطقة وبدأ ما يشبه التفاهم المشروط بشأن الملف العراقي. فواشنطن كانت تطمح إلى كسب الوقف وشراء سكوت فرنسا مقابل دعمها في سياستها اللبنانية. وشكل هذا الانسجام السلبي (الفرنسي - الأميركي) توترات لبنانية وإقليمية أظهرت العداء المتطرف والشخصي للرئيس شيراك. وبلغ الكره لشخصه درجة عالية من الحقد وخصوصا في دمشق وعند الرئيس لحود في بعبدا.
استغلت واشنطن هذه الكراهية وحاولت توظيفها لبنانيا وعراقيا من خلال البحث عن وسائل خاصة تضعف الموقع الفرنسي ودور الرئيسي شيراك الخاص في لبنان، في وقت كانت تحاول تعزيز احتلالها للعراق بعد أن خفت الضغوط الأوروبية والاعتراضات الدولية.
ساهم هذا اللقاء المتنافر بين فرنسا وأميركا في تشويش الصورة دوليا وإقليميا. فشيراك التقى مع بوش على الموقف من لبنان ولكنه لم يسحب اعتراضه على الاحتلال الأميركي للعراق. وبوش استفاد من أزمة لبنان لتحسين العلاقة مع شيراك وتخفيف نسبة الاعتراض على موضوع العراق. ولكن هذا التقاطع لم يعطل السلبيات نهائيا بسبب استمرار التنافر بين الدولتين في أكثر من موقع ومكان. ويمكن ملاحظة هذا الأمر من خلال رصد المواقف السورية والإقليمية من السلوك الفرنسي في لبنان.
دمشق مثلا تركز دائما هجومها على شيراك ودوره وموقفه وتنتقده أكثر من بوش والإدارة الأميركية. والرئيس لحود لا يتردد يوميا في التهجم على الرئيس الفرنسي معتبرا إياه رأس الحربة في قيادة التحرك الدولي في لبنان. وبسبب هذه المواقف المتولدة سلبا من تداعيات الحوادث في بلاد الأرز التي شهدت سلسلة اغتيالات وصولا إلى الحرب العدوانية في الصيف الماضي تشكلت قناعات إقليمية تدفع باتجاه تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة على حساب فرنسا. فالاغتيالات طالت تلك الرموز والوجوه والشخصيات التي تميل تقليديا إلى أوروبا وثقافتها، والعدوان أضعف الدولة وعرقل المشروع العربي الذي رعته فرنسا.
اعتمدت هذه القناعات الإقليمية سياسة مزدوجة وهي مقاومة النهج الفرنسي في لبنان وقبوله في العراق مقابل مقاومة النهج الأميركي في العراق والتنسيق معه في لبنان.
المسألة إذا متشابكة، فواشنطن حاولت استثمار هذا التداخل دوليا من خلال العدوان على لبنان حين أعطت الضوء الأخضر لحكومة أيهود أولمرت بتدمير البلد الصغير وإضعاف الدولة (المشلولة أصلا) داخليا وجرجرتها إلى تداعيات لا تستطيع الخروج منها من دون غطاء عربي ودعم دولي. لذلك ردت فرنسا على المسألة من خلال الدعوة إلى مؤتمر «باريس 3»، وإعادة تنشيط سفارتها في دمشق، والتذكير بملاحظاتها السابقة على النتائج الوخيمة للحرب على العراق، ومطالبتها واشنطن بضرورة الانتباه لتوصيات بيكر - هاملتون، وأخيرا الانفتاح على طهران ومحاولة مد قنوات دبلوماسية معها بشأن معالجة الملف النووي.
هذه التحركات الدبلوماسية الفرنسية أزعجت أميركيا. ولكن بوش ليس في وضع يسمح له بإعلان فك الشراكة مع شيراك في وقت ضائع. فالرئيس الفرنسي سيخرج من قصر الاليزيه قريبا وهذا ما سيخفف على واشنطن بعض الضغوط وخصوصا في الملف اللبناني الذي تحاول واشنطن الاستفادة منه لتحسين مواقعها في العراق وتطوير ضغوطها على طهران.
تراجع الرئيس شيراك عن تصريحاته بشأن الملف النووي الإيراني يشير إلى نوع من التذبذب في المواقف الفرنسية وهو يعكس بدرجة ما نسبة تلك التجاذبات الدولية التي ترمي بثقلها على «الشرق الأوسط». فالسياسة الفرنسية دفاعية وتريد قدر الإمكان حماية مواقعها في مناطقها التقليدية بينما السياسة الأميركية هجومية تريد وراثة تلك المناطق من طريق مشاركة بريطانيا في حربها على العراق ومشاركة فرنسا في اقتسام لبنان. وهذا بالضبط ما يفسر التشابك في المواقف وهو ما أدى إلى تشويش الصورة الدولية وعدم فهم الكثير من الأمور. فاللقاء المتنافر بين القوتين الدوليتين أعطى أشارات خاطئة للسياسات الإقليمية وأحيانا تورطت بعض العواصم في قراءات متسرعة للحوادث سواء في العراق وإيران أو في لبنان وفلسطين.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1611 - الجمعة 02 فبراير 2007م الموافق 14 محرم 1428هـ