العدد 1610 - الخميس 01 فبراير 2007م الموافق 13 محرم 1428هـ

لكي نجعل الرثاء الحسيني أداة للتواصل الحضاري

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

لا ينفك البعض عن القول إن مراسم عاشوراء تساهم في الشحن السلبي وتشديد اللغة الطائفية وتعميق المسافة بين المذاهب الإسلامية، ولعلهم يستندون إلى بعض الممارسات أو الأطروحات المقارنة لإحياء الذكرى، ولكن ذلك لا يجب أن ينعكس سلبا على أصل تلك الشعيرة الحقة، التي يمكن أن تكون منطلقا لاستثارة المعاني الإنسانية الراقية، وأساسا لإنماء روح القبول والتفاهم، ليس بين المسلمين فحسب، بل بين بني الإنسان جميعا.

ولأن الرثاء الحسيني أداة من أدوات التعبير والدلالة على مضمون النهضة، فمن الممكن أن يحقق تواصلا إيجابيا مع الآخرين إذا روعي فيه اقتضاءات تطور أدوات التعبير والدلالة بحسب الزمان والمكان. فصحيح أن الدين متقوم باللغة والمضمون معا، ولكن بينهما فرقا من جهة أن المضمون يتسم بنوع من الثبات ولكن اللغة في طور التحرك دائما، وذلك لأن تغير أساليب الدلالة والإيحاء هو السمة البارزة للتطور الثقافي لدى الأمم والذي لا يتوقف أبدا، ولذلك كان الإصرار على ثباتها لا يخلو من عبثية مضرة بالتفهيم والتفاهم.

وحصل الاتفاق على ثبات لغة النص القرآني لأنه يمثل نصا دستوريا يجب أن يكون له ثبات واستقرار، فتلك ضرورة لا مناص منها ولا تنسحب على سائر مساحات اللغة وأدوات التعبير. فالرثاء - في الحقيقة - هو لغة يراد منها إيصال المعاني إلى المخاطب بها، فمن اللازم أن تكون دلالاته مفهومة لدى المخاطب ليتحقق التواصل المطلوب، وذلك يستدعي مراجعة دائمة لآليات الرثاء لكي تناسب التطور الثقافي الذي يؤدي إلى اختلاف أرضية القبول والاستجابة. فتوجد إذن في هذا العصر حاجة حقيقية إلى استحداث أدوات جديدة تعكس الجوانب الإنسانية في القضية بشكل مباشر وشفاف، إذ تحظى تلك المساحة باهتمام كبير لدى الثقافة المعاصرة.

ولعل دراسة فاحصة للاستتباعات والعوارض التاريخية للنهضة الحسينية، تكفي لتكوين انطباع بأنها تمثل نموذجا إنسانيا فريدا بين الثورات التي عرفها التاريخ، إذ إن طبيعة أية ثورة هي أنها محاولة لتغيير الواقع القائم ونفي شيء موجود وإحلال وضع آخر محله، فلذلك تصطدم عادة بعقبات المخالفين لها والذين يهددون مصالحها، فينتج عنها الكثير من الكراهية والتلوين داخل المجتمع الواحد. وكذلك، فالثورة في العادة حال هادرة ومفعمة بالعاطفة والأحاسيس، ولذلك فقد تقترن بسلوكيات غير عقلانية ومصاحبة لضياع بعض الحقوق، وتضر بعض الأبرياء. وكذلك يكون لكل ثورة قادة يحركون مفاصلها ويوصلونها إلى غاياتها، ولذلك فهي تولد تلقائيا طبقية غير قابلة للاجتناب، وقد يعمد بعض القادة إلى منح أتباعهم وعودا كثيرة لأجل تحريكهم في اتجاهها ودفعهم إلى التجاوب معها، وقد تصطدم هذه الآمال بصخرة الواقع الذي قد ينكشف بأنه أقل بكثير من سقف الطموحات.

وكل هذه الاستتباعات تشكل سيرورة لازمة للنهضات أو امتداداتها في طول الزمان، مهما كانت النهضة حقانية أو ربانية، وذلك لأن تلك العوارض قد لا تنشأ عن مصدر النهضة، بل تتوالد من خلال تفاعل الأتباع البشريين عبر التاريخ. ولكن، من المهم الإشارة إلى أن نقاء المصدر له تأثير لافت على نوعية تلك السيرورة وكونها تستتبع الحد الأقل من العوارض المشار إليها... فهذا ما نجده بوضوح في نهضة الحسين (ع) إذ نقاء المصدر وخلوه من أي شائبة في المساحة الإنسانية، فهي نهضة لا تختلف فيها الأهداف المعلنة عن غير المعلنة، بل امتازت بالوضوح الإعلامي التام وتجردت عن عامل الدعاية.

فعندما خطب الحسين في مكة قال: «ألا ومن كان باذلا فينا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى»، وقد تفرق عنه أقوام من العرب لما علموا بأنه لا يعد بمال ولا سلطان.

وفي ليلة العاشر من المحرم جمع أنصاره وقال لهم: «إن هؤلاء يطلبوني أنا ولو ظفروا بي لذهلوا عن غيري، فتفرقوا في سواد هذا الليل واتخذوه جملا»... وهكذا نجد الحسين وهو في أوج الأزمة والضيق وقلة الأنصار وكثرة الخصوم، لا يغفل عن جزئيات مشكلات أصحابه مع شدة المحنة وهول الموقف، فعندما وصل الخبر إلى محمد الحضرمي - أحد أصحاب الحسين - بأن ابنه قد أسر في ثغر من الثغور مع المشركين، قال له الحسين: «إنك في حل من بيعتي فاذهب واعمل على فكاك ولدك»، لكنه أصر على البقاء إلى جانب الإمام فأعطاه خمس حلل ليستعين بها على فكاك ولده.

وكان بمقدور الحسين أن يمارس دور المعارضة في مكة، فلعل ذلك كان أكثر أمنا له وأكثر تأثيرا لدعوته، ولكنه علل خروجه عنها بتعليل أخلاقي رفيع، وهو قوله لأخيه محمد بن الحنفية: «يا أخي خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت»، وعندما أتى الحر وأصحابه ورآهم الحسين عطاشى، أمر بسقيهم وسقي خيولهم، وذلك لأن الخصومة لا تبيح أن يحرم الخصم حق الحياة والكرامة، ثم استقبل توبة الحر بترحاب، وهو الذي كان سببا مباشرا في حصاره وحصار أهل بيته.

واعتنى الإمام كثيرا بنصح عمر بن سعد عندما اجتمع به يوم العاشر من المحرم بين الصفين وقال له: «يا عمر... كيف تقدم على قتلي وأنت تعرف نسبي ومقامي؟!» فقال عمر بن سعد: «أخاف أن تهدم داري»، فقال الحسين: «أنا أبنيها لك»، فقال عمر: «أخاف أن تؤخذ أرضي» فقال له الحسين: «وأنا أعوضك بالأملاك التي عندي في الحجاز»، وكان الحسين يعرف بأن تراجع عمر بن سعد عن قتله لن يؤثر على النتيجة كثيرا، وذلك لأن عبيد الله بن زياد سيكلف شخصا آخر بقيادة الجيش كشمر بن ذي الجوشن مثلا، الذي كان متحرقا للمهمة، ولذلك كان واضحا أن محاولات الحسين بإقناع عمر بالتخلي عن قتله كانت بدافع الشفقة على عمر بن سعد، وأن لا ينتهي إلى ذلك المصير الأسود وهو أن يبوء بدم الحسين وأهل بيته.

وعندما حان وقت صلاة الظهر طلب الحسين هدنة ليؤدي آخر صلاة، وقال: «إن الله يعلم بأني أحب الصلاة وكثرة الاستغفار»، فأعطوه هدنة لم تخل من مماطلة ومشاغبة، فوقف الحسين للصلاة ووراءه أصحابه، ووقف سعيد بن عبدالله الحنفي صابرا بين يدي الحسين، يقيه السهام الطائشة، وما إن فرغ الحسين من الصلاة حتى سقط سعيد صريعا وفي جسده أكثر من ثلاثة عشر سهما.

وقد أذن الحسين لجون الذي كان عبدا لأبي ذر الغفاري ثم صاحب أهل البيت، فقال له: «يا جون لقد تبعتنا طلبا للعافية، وقد آل حالنا إلى ما رأيت، فهلا نجوت بنفسك؟»، فقال جون متأثرا: «يا بن رسول الله، إن لوني لأسود، وإن ريحي لنتن، وليس نسبي كنسبكم، ولا حسبي كحسبكم، ولكني، والله لا أفارقكم حتى يختلط دمي بدمائكم»... وعندما يسقط شهيدا يقف الحسين مؤبنا له فيقول: «اللهم بيض وجهه، وطيب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرف بينه وبين محمد وآل محمد»، ثم يضع خده على خده فيفتح العبد عينيه ويقول: «من مثلي والحسين واضع خده على خدي؟!».

وهكذا، يمكننا من خلال التركيز على المساحات الإنسانية في نهضة عاشوراء أن نجعل، من إحياء الذكرى، منطلقا لبناء الأواصر الإسلامية والإنسانية، وأن نلفت أنظار سائر الأمم إلى هذه الصفحة الناصعة من تاريخ الأمة الإسلامية.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1610 - الخميس 01 فبراير 2007م الموافق 13 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً