العدد 1610 - الخميس 01 فبراير 2007م الموافق 13 محرم 1428هـ

افتتاح قناة السويس وعبور أوروبا إلى مصر

بلاد الشام تدخل عصر الطوائف (8)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

شكل الرباعي الطهطاوي والبستاني والشدياق وخيرالدين التونسي قواعد انطلاق للمرحلة التاريخية الثانية في تطور فكر النخبة العربية المعاصرة. وتشكلت من كتابات وسير وتجارب وهموم هذا الرباعي مجموعة مفاهيم ساهمت في تمهيد الطريق لجيل آخر نجح في تجاوز العموميات ونقلها إلى درجة أعلى في تصور المعرفة.

فكر هذا الرباعي اشتمل على عموميات وخصوصيات. فالأربعة توافقوا على نقل عناوين مشتركة مثل الدعوة إلى محاكاة أوروبا والمناداة بالشعارات التي تتحدث عن الإنسانية والمساواة والعدالة والمرأة ودستور الدولة والحرية والتسامح ورفض الظلم والتفرقة. وهذا المشترك في العناوين لا يعني أن الأربعة تطابقت وجهات نظرهم في الفروع والتفصيلات. فلقد كانت لكل مفكر خصوصيته بسبب اختلاف ظروفه البيئية أو الثقافية أو الدينية، مضافة إلى خصوصية أخرى تتصل بالتجربة والسيرة الذاتية والموقع والدور. فالطهطاوي كان رجل دولة وبحكم هذه المكانة تشكلت عنده هواجس مثقف الدولة الذي يطمح إلى إرشاد الحاكم وتنظيم أمور الباشا من خلال هيكلة الأفكار في صورة اقتراحات عملية يمكن أخذها كعينات للتطبيق. والأمر نفسه فعله خيرالدين في تونس فهو كان رجل دولة من الطراز الرفيع وساهم من خلال علاقته الهادئة أو المتوترة مع «الباي» في تشكيل سلسلة مفاهيم تعكس هموم مثقف الدولة الطامح إلى تطوير هيكلية تنظيمية تتناسب مع روح العصر.

هذا الموقع «الرسمي» لم يتوافر للثنائي المشرقي البستاني - الشدياق. فالأول كان أقرب إلى المثقف الحر الذي استفاد من علاقاته بالإرساليات وإعاد استثمارها في قطاعات التربية والصحافة والبحث الفكري. والثاني كان أقرب إلى المثقف التائه الذي تميزت سيرته الذاتية بالتجوال من بلاد إلى أخرى حتى حط به المقام في تونس وأعلن إسلامه هناك لينتقل بعدها إلى الاستانة (عاصمة السلطنة) ويبدأ نشاطه في الطباعة والإعلام والصحافة ويؤسس دورية فكرية لعبت دورها الخاص في ربط الثقافة العربية (الإسلامية) في دائرة اهتمامات مشتركة.

التوافق والتعارض في حياة الرباعي وأنشطته لا يعني أن الأربعة سلكوا اتجاهات متناقضة. فهم فعلا كانوا على سوية واحدة من جهة محاولة اكتشاف أسباب التقدم الأوروبي وكذلك على درجة متشابهة من جهة القلق على الأمة والهوية واللغة والدين، ولكن حالات التوتر اختلفت بحكم المهنة أو الموقع بين مثقف السلطة والمثقف الحر.

هذا الاختلاف يمكن ملامسته من خلال متابعة سير الأربعة بدءا بالطهطاوي والبستاني وانتهاء بالشدياق وخيرالدين التونسي. آنذاك كان الطهطاوي يمارس عمله بهدوء وفاعلية في القاهرة فهو تبوأ موقع ناظر مدرسة اللغات والألسن وكان أول من تحمل مسئولية هذا المنصب. ثم تقلب في وظائف عدة فانتقل إلى مدرسة المدفعية العسكرية وقام بترجمة العلوم الهندسية والفنون الحربية. وبعدها أسس مدرسة للترجمة (الألسن) وأنشأ أول متحف للآثار المصرية.

في تلك الفترة الواقعة بين عودة الطهطاوي من باريس إلى مصر في العام 1832 إلى فترة تسلمه مسئولية تحرير صحيفة «الوقائع المصرية» في العام 1842 تحولت القاهرة إلى مدينة عربية حين أخذت تستقطب رواد النهضة وتساعدهم في تأمين فرص عمل وتسهيل أنشطتهم الفكرية والفنية والثقافية. وكان الشدياق من الشخصيات الأدبية التي استقبلتهم وعمل في «الوقائع المصرية» التي صدرت أعدادها الأولى في العام 1828 قبل أن يتولى الطهطاوي الإشراف على تحريرها. وغادر الشدياق مصر بعد سنتين من عودة الطهطاوي ليعود إليها مجددا في العام 1886 بعد رحيل الطهطاوي الذي توفي في العام 1872.

تعتبر فترة تولي الطهطاوي الإشراف على «الوقائع المصرية» مهمة، لأنه نجح في تطوير موادها ومقالها السياسي وتحسين شكلها. وكانت آنذاك تصدر باللغتين العربية والتركية بسبب تكوين الدولة المصرية التي كانت مستقلة من جانب وتابعة للسلطنة العثمانية من جانب آخر. وهذه «الازدواجية» السياسية أورثت لاحقا الدولة مشكلات كثيرة نتيجة التنافس الدولي على مصر والصعوبات التي كانت تواجه أسرة محمد علي في فك الارتباط التقليدي بين الحكم المحلي والمظلة العثمانية.

في هذه الفترة حصلت تطورات خطيرة في المنطقة. فبريطانيا اتجهت نحو استكمال السيطرة على إمارات الخليج العربية في العام 1866 فاصطدمت بالدولة السعودية (الوهابية) الثانية التي أعيد تأسيسها في العام 1843 وحصلت بينهما مواجهات عسكرية برية وبحرية انتهت بتراجع النفوذ السعودي عن تلك المناطق. إلا أن الحادث الأبرز في تلك الفترة المفصلية كان الانتهاء من حفر قناة السويس بإشراف المهندس الفرنسي دي لسيبس وافتتاحها رسميا في العام 1869 بعد عشر سنوات من الحفر.

افتتاح القناة سيكون له وقعه الدولي على التجارة وحركة المواصلات البحرية. فهذا المعبر سيعيد مجددا الاعتبار لخطوط قديمة تراجعت أهميتها التجارية بعد الاكتشافات الجغرافية والدوران حول إفريقيا في نهاية القرن الخامس عشر. فبعد الافتتاح ستتحول مصر إلى منطقة عبور ليس للسفن والتجارة وإنما للصراعات الدولية وتحديدا تلك المنافسة الأوروبية الشرسة بين فرنسا وبريطانيا. فالقناة ستدخل التاريخ وستجر معها مصر والمنطقة إلى دائرة لا تنتهي من الصراعات والمنافسات والمزاحمات، وهذا ما سيظهر لاحقا على خريطة منطقة «الشرق الأوسط» التي أخذت تستعيد موقعها الجغرافي في حركة عبور البواخر والنقل كما كان حالها في الأيام الخوالي.

هذه التحولات سيراقبها جيدا الطهطاوي وسيتعرض بسببها إلى مضايقات وخصوصا بعد رحيل مؤسس الدولة محمد علي باشا وابنه إبراهيم وحصول تعديلات على نظام التوريث الأسري نتيجة رحيل الابن قبل الأب. وشكل الاضطراب في حلقات التوريث مجموعة ضغوط محلية وإقليمية ودولية كان الطهطاوي أحد ضحاياها في بداية الأمر نظرا إلى الفساد والحسد والشكوك. إلا أنه عاد وتحسن وضعه بعد أن خلف الخديوي سعيد السلطة في العام 1854 بعد الخديوي عباس. وفي عهد الباشا الجديد (سعيد) برز الطهطاوي مجددا في حقول التربية والترجمة والطباعة والصحافة، فقام مثلا بتنظيم نظام التعليم وصدرت له إرشادات بهذا الشأن. كذلك أشرف على نشر الكثير من كتب التراث العربي الإسلامي كان من أبرزها «مقدمة» ابن خلدون.

شكلت القاهرة آنذاك جاذبية سياسية ثقافية للكثير من الطامحين العرب والمعارضين لسلطاتهم المحلية أو المخالفين للسلطنة أو الرواد الذين كانوا ينظرون إلى مصر بصفتها قائدة التحديث والانفتاح على الغرب وعلومه ومعارفه. وهذا الأمر ما كان ليتم لولا تلك السياسة التي اتبعها الخديوي سعيد بالتعاون مع تلك النخبة التي توافرت لها فرص الذهاب إلى أوروبا وتلقي علومها من الجامعات والمعاهد. ولاشك لعب الطهطاوي ذاك الدور الخاص في مرحلة انتقالية كانت خلالها مصر تعاصر محطة مزدوجة في الولاء، ولكنها كانت محطة تاريخية للعبور من عصر السلطنة العثمانية إلى عصر الاستعمار الأوروبي المباشر. وهذا الأمر لن يحصل إلا بعد فترة زمنية كان لابد أن تمر بها أرض الكنانة بعد أن شهدت حقبة مزدهرة نقلتها معها بواخر الغرب العابرة لقناة السويس.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1610 - الخميس 01 فبراير 2007م الموافق 13 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً