يبدو أن العام الماضي كان قاسيا على أهل البحرين، إذ إن رصيد هذا البلد الصغير من «الخسائر البشرية» في سنة واحدة كان مكلفا جدا، وبين حسرة فقْد كوكبة من الشباب ومرارة رحيل رجالات وشيوخ كانت لهم بصماتهم الجلية في رفع ناصية البحرين عالية، أبى ذلك العام أن يختم أيامه إلا بانتزاع ثلاثة من أعمدة المنبر الحسيني، لطالما غمروا مجالس الأفراح والأتراح في البحرين ودول الخليج بصولاتهم الخطابية.
ليس سهلا أن ينتج المجتمع رموزا ذوي ثقل كبير ومكانة مرموقة، وخصوصا على صعيد الوعظ والارشاد، وخسارة هذه الرموز تكون فادحة وصعبة على المجتمع، ولا ننسى أن المنبر الناجح هو الذي يحظى بخطيب بارع ومبدع، خبير بفنون الخطابة ويدرك حجم الصنعة، وذلك ما يبحث عنه المستمع أينما كان، لهذا فإن أثر وجود هذا النوع من الخطباء شكّل ويشكل حضورا أبويا بين الشباب، يمدّهم بالوعي فينصتون له، ويجذبهم بشجو صوته فيلتفون حوله، وهكذا تماما كان الخطباء الراحلون.
الشيخ أحمد مال الله، الشيخ عبدالأمير الجمري، السيد محمد صالح الموسوي... ملكوا المنبر فملكوا قلوب الناس، أحبّوا صنعتهم فتعبوا من أجلها، فأصبحت لكل واحد منهم ملامح خطابية خاصة اشتهر بها. غير أنهم جمعتهم خصائص كثيرة، منها سعة الاطلاع وكتابة الشعر، فضلا عن حلم واحد كان يراودهم جميعا، ورحلوا وهم يأملون في رؤيته واقعا ملموسا، إنه حلم «نادي الخطباء» الذي بدأ به الجمري، وانتهى به مال الله إلى «رابطة الخطباء».
مال الله... قطب شبابي ومدرسة متنقلة
لم يكن المرحوم الشيخ أحمد مال الله عالما وخطيبا بقدر ما كان قطبا (مغناطيسيا) ببشاشته وتواضعه، جذب حوله الكثير من الشباب قبل الكبار، أحبّه الشباب لأنه لم يجعل بينه وبينهم أي حاجز أبدا، بل كان يستقبلهم بعد نزوله من على المنبر بحنان وحميمية، فيشعرون بالطُمأنينة أمامه، والانجذاب الدائم نحوه، يسألونه عن كل مسائل الحياة الفقهية والاجتماعية فيجيبهم بأسلوبه السهل الممتنع.
أما من الناحية الخطابية فلم يكتف الشيخ بتميزه وجماهيريته الشخصية، ولم يحتكر الصنعة لنفسه، بل فتح ذراعيه لكل من أحب أن ينهل من خبرته، وحوّل بيته إلى مدرسة خطابية (قل نظيرها)، لذلك ترى أن تلامذته كثيرون، بحيث أن غالبية النخب الشبابية من الخطباء في البحرين هم من طلابه. وقلّما تجده يرتقي المنبر قبل أن يسبقه «صانع» (متعلم).
بهذه الشخصية المحبوبة والمعطاءة فارق مال الله الحياة، وترك في قلوب محبيه لوعة وألم، غادر وهو يحمل في قلبه حلما كبيرا، أفصح عن بعضه قبل وفاته بأيام قلائل، إذ جمع نخبا كبيرة من خطباء البحرين يقدمهم سماحة الخطيب الشيخ أحمد العصفور، وطرح عليهم المشروع الحلم، وهو تأسيس رابطة للخطباء، وضع نواتها في تلك الجلسة، وكأنه يقول لهم: ها قد وضعت اللبنة الأولى، وسأترككم لتكملوا حلمي الكبير، أما أنا فراحل عنكم!
الجمري... بحّة الصوت مفجعة
نعرف الجمري المجاهد، ونعرف الجمري المضحّي والصابر، ونعرف الجمري كلمة الحق الجريئة التي لم يتحملها الآخرون فحاولوا طمسها بما استطاعوا، ولكن قليلون منا يعرفون حقا من هو الجمري الشاعر والخطيب؟ من ينصت لحشرجة صوته لا يظن منه ملكة صوتية مذهلة، يسلب بها الأذهان ويستدر بها الدموع، ويجرّ بها الأنات، فضلا عن طرحه المنبري الذي سخّر به المنبر جامعة إسلامية راقية لطرح العلوم الدينية والتربوية والسياسية وغيرها.
أشرطة الكاسيت التي تحمل تسجيلا لبعض أطواره المشجية بدأ يتداولها الشباب البحريني الآن (وخصوصا بعد رحيله) وكأنه قرأها بالأمس، فتراهم يمزجون عشقهم الروحي والسياسي بعشقهم الخطابي لهذا الرجل، ليس مبالغة بقدر ما تحمل من سحر الفجيعة وتصوير المأساة.
أما عن حلمه بنادي الخطباء، وهو ما كشفته «الوسط» بالوثائق أيام وفاته، فقد حمله معه رفيق دربه المرحوم مال الله، وذهب الاثنان ليتركا تحقيق الحلم على عاتق البقية الباقية، وهو ما يخشى منه أن يتبدد برحيل المطالبين به، فلا يرى النور أصلا.
الموسوي... قريحة تتنفس أينما حلّت
الخطيب الموسوي العدناني، آخر الراحلين، كأنه كان على موعد مع زميله الجمري، فآخر ما جادت به قريحته أبيات رثائية كتبها وهو على فراش المرض في المرحوم الشيخ عبدالأمير، ليلحق به بعد أيام قلائل، تاركا خلفه رعيلا من المفكرين والخطباء والفنانين والكُتاب وحملة الدكتوراه وغيرهم من أبنائه ومريديه.
ليست الخطابة وحدها من معالم الموسوي، فقرينها كان الشعر، ولا يذكر الموسوي العدناني إلا وذُكر الشعر، كلاهما صاحبان لم يفترقا. وأكثر ما يميز شعر الموسوي من خصائص سرعة البديهة والقريحة الحاضرة. فلا تجد مناسبة فرح أو ترح إلا ويترك المرحوم فيها بصمته بقصيدة جميلة تحمل خيالا واسعا وصورا بلاغية أخّاذة. وهكذا ختم السيد العدناني حياته بهدوء، منهيا عمرا من العطاء، ومغلقا عاما من الحزن كان قاسيا، اختطف ثلاث شمعات كانت تنير المنابر الحسينية في كل محفل، وخسرت البحرين بل والأمة الإسلامية بانطفائها (ولا تنطفئ) كما هائلا من العطاءات والمدد الكبير الذي لن ينساه أهل البحرين أبدا. فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خيرا.
العدد 1610 - الخميس 01 فبراير 2007م الموافق 13 محرم 1428هـ