لا نحتاج إلى كثير من الجهد لنثبت كيف أن دعوى الديمقراطية مقرونة بنماذج فشل الدولة، في هذه المنطقة من العالم، قد أدت فيما أدت إليه إلى شيوع العنف جنبا إلى جنب مع انتشار الفقر والإحباط والتطرف.
ولا نحتاج إلى مزيد من البراهين والأدلة لنؤكد أن ما نعانيه من هذه النتائج قد جاء بأيدينا في الداخل، مصحوبة بأيديهم من الخارج، وكلها في النهاية أيادٍ تحالفت علينا، دفاعا عن مصالحها المشتركة، مصالح من يريد الاستمرار قابضا على صولجان الحكم متحكما في الثروة، جامعا بين زهور السلطة وبريق المال، ومن يريد الحفاظ على مصالحه الحيوية الكثيرة في ظل الهيمنة الكونية الجديدة!
هكذا وجدنا أنفسنا محاصرين بين خيارين أحلاهما مر، العنف المحتمي بالديمقراطية، بل بدعاواها، أو ادعاءات الديمقراطية المتسامحة مع العنف، وهو ما يثبت لنا أن كل ما قيل ويقال من جانب أميركا وحلفائها عن إجراء إصلاحات ديمقراطية في البلاد العربية، بداية بمصر؛ لتكون مقدمة رمح لمحاربة العنف والإرهاب والتطرف، إنما هو كذب بواح، ومخادعة وتدليس ومخاتلة، إن كانت قد انطلت على البعض في فترات سابقة، فهي قد انكشف الآن بأجلى صور الفضيحة.
ومنذ أن تبنت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش حملة نشر الديمقراطية في بلادنا في العام 2003 حتى الآن، مقرونة بالحملة «المقدسة» ضد الإرهاب، ونحن لا نكاد نلمح تقدما حقيقيا في أي إصلاح ديمقراطي حقيقي في أية دولة من دول المنطقة، مثلما نتأكد الآن أن وتيرة العنف قد ازدادت حدة منتقلة بحرية واضحة من أفغانستان إلى العراق، ومن العراق إلى السودان، ومن فلسطين إلى الصومال... إلخ.
فبأي حجة يعاود الرئيس بوش حديثه الممل عن الديمقراطية في الشرق الأوسط والانتصار في الحرب ضد الإرهاب «الإسلامي»؟
ففي خطاب حال الاتحاد الذي ألقاه بوش الأسبوع الماضي، لم يتوقف طويلا أمام خطته في فرض الإصلاحات الديمقراطية على الدول العربية، كما كان يجاهر في الماضي القريب، بل إنه عبر هذا المأزق سريعا، واكتفى بالقول بما معناه إن اقتناع الدول المعتدلة مثل مصر والسعودية تحديدا، بالديمقراطية سيؤدي إلى مقاومة العنف ويساعد على مواجهة الإرهاب.
وفي تفسيره لذلك، قال متحدث باسم الخارجية الأميركية إن إدارة الرئيس بوش لن تغير اتجاهها بدعم التحولات الديمقراطية في البلاد المذكورة، ولن تتوقف عن مساعدة هذه النظم على الاستجابة لمطالب شعوبها من دون تدخل مباشر من جانب أميركا.
ولعلنا نضيف إلى ذلك استشهادا آخرَ، يؤكد ما ذهبنا إليه منذ سنوات من أن أميركا غير جادة في مسألة نشر الديمقراطية ومقاومة نظم الفساد والاستبداد الحاكمة؛ لأنها تفضل في كل الأحوال الحفاظ على مصالحها الحيوية في المنطقة، حتى لو تحالفت مع نظم تراها استبدادية وفاسدة!
والاستشهاد هو ببساطة المقارنة بين الحديث «المحاضرة» الشهيرة لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في الجامعة الأميركية بالقاهرة، خلال العام 2005، الذي ألقت خلاله مجموعة من الصواريخ الموجهة حول إصرار واشنطن على إجراء إصلاحات ديمقراطية في مصر والبلاد العربية، وصولا إلى التهديد بوسائل ضغط الخشن؛ ما أثار ابتهاج المتأمركين العرب الذين أدمنوا استعداء أميركا حتى على بلادهم، ثم نقارن ذلك بالتصريحات هادئة النبرة ناعمة الملمس للوزيرة نفسها، التي أدلت بها عن تباطؤ الإصلاحات الديمقراطية في مصر خلال زيارتها الأخيرة للأقصر قبل أيام.
لاشك في أن البون شاسع بين الموقفين للإدارة نفسها والمتحدثين أنفسهم باسمها، فالعبرة هنا ليست مصر أو غيرها من الدول المعنية وليست الديمقراطية ولا غيرها من المبادئ والقيم، ولكن العبرة بحماية المصالح الحيوية الأميركية، وبكيفية تجنيد ما تسميه «مجموعة الدول العربية المعتدلة مصر والأردن ودول الخليج الست»؛ للمساعدة الفاعلة على انقاذها من المقتلة الدائرة في العراق؛ والاحتشاد معها ضد إيران وسورية وحزب الله في لبنان و «حماس» في فلسطين الذين تراهم محور الشر ومنتجي العنف والإرهاب!
وبالتالي إن عصا الديمقراطية «الغليظة» التي رفعتها واشنطن على مدى السنوات الماضية، ضد النظم الحاكمة في المنطقة كان هدفها تخويف هذه النظم وإرباك سياستها، ودفعها إلى مزيد من الانصياع والخضوع إلى الاستراتيجية الأميركية، من دون تبرم حتى تململ، حتى لو أدى هذا الانصياع إلى التضحية ببعض المصالح والأهداف العربية وأهمها الاستقلال والسيادة الوطنية!
ومن الواضح أن طرفي شد حبل الديمقراطية النظم العربية الحاكمة والإدارة الأميركية قد اكتشفا في وقت واحد نقاط القوة والضعف عندهما معا، ووجدا أن «العنف» هدف مشترك يجمعهما في صف واحد ويجند قواهما في خندق واحد؛ ما يدفعهما إلى التعاون والتنسيق الأكبر، فتخلت الإدارة الأميركية عن ورقة الإصلاح الديمقراطي، وتخلت النظم العربية عن ترك أميركا تغرق وحدها في المستنقع العراقي الدامي، وقررا العمل المشترك في هذا الإطار، وضمن استراتيجية بوش الجديدة، التي إن قوبلت بترحيب محور الاعتدال العربي صراحة، فإنها للغرابة قوبلت بمعارضة أميركية واسعة داخل الكونغرس وفي الشارع وفي الإعلام وبين جماعات المصالح!
وبقدر ما اعتبر المعارضون الأميركيون لاستراتيجية بوش هذه أن التأييد الصارخ للمعتدلين العرب لهذه الاستراتيجية هو بمثابة نفاق وانتهازية سياسية يحتمي بها المستبدون المعادون للديمقراطية في الشرق الأوسط، بقدر ما أن إدارة بوش توصلت إلى صوغ جديد قوامه أن من يؤيدها في المنطقة هم الديمقراطيون والليبراليون الحقيقيون بصرف النظر عن كل ما تقوله شعوبهم عنهم بل عن كل ما قالته هي عنهم من قبل!
هكذا وقعت قضية الإصلاح الديمقراطي ضحية بين طرفي شد الحبل، بعد أن تحالفا معا ضدها، وباتت هذه القضية متراجعة من حيث الفكر والتطبيق، من حيث الوعود والعهود التي تبتلع وتنقص ومن حيث الخطوات والإجراءات التي تتلكأ ثم تجهض نهائيا، على رغم كل مطالب الشعوب وتطلعها إلى الحرية والسيادة ولم يحدث ذلك بسبب تخلي أميركا عن ضغوطها بقدر ما حدث نتيجة المقايضة المشبوهة، وتقين الحكام أن عصا الديمقراطية الأميركية لم تكن غليظة ولن تكون!
ونظن أيضا أن طرفي شد الحبل قد توافقا أخيرا على أن تبعات الديمقراطية ونتائج التحول الإصلاحي الحقيقي، هي تبعات ونتائج معادية لهما ومضادة لمصالحهما المشتركة وها هو النموذج الفلسطيني يقدم الدليل، ففي ظل الديمقراطية والانتخابات الحرة الشفافة، نجحت «حماس» الموسومة بالراديكالية الإسلامية، مثلما تمكنت التيارات الإسلامية السياسية في إثبات وجودها عبر صناديق الانتخابات في مصر والأردن والكويت والبحرين والمغرب واليمن وغيرها، بما قدم إلى الطرفين مبررا للانقضاض ليس فقط على هذه التيارات ولكن على كل مقولات الإصلاح الديمقراطي حتى إن ظلت عمليات التجميل الإصلاحي والتزويق الديمقراطي قائمة ومستمرة!
في أميركا مفكر مشهور عالميا هو نعوم تشومسكي ليبرالي الفكر يهودي الديانة معادٍ للصهيونية وعدوانية «إسرائيل» بقدر ما هو معادٍ لغطرسة القوة الأميركية المنفلتة، أصدر أخيرا كتابا مهما بعنوان «الدولة الفاشلة» ولم يجد طبعا نموذجا للدولة الفاشلة، أفضل من الولايات المتحدة الأميركية؛ لأنها تعلق المعايير المزدوجة بلسانيين، أولهما اخلاقي عن قيم الحرية والعدالة والمساواة ثانيهما انتهازي برجماتي يمارس العنف المفرط، ويشن الحروب الدامية غير المبررة اخلاقيا، وترتكب الجرائم والفظائع والمذابح، باسم الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية، والمحطة هي أن هذه دولة فاشلة؛ لانها بفضل هذه المعايير المزدوجة والممارسات الانتهازية، تجلب للشعب الأميركي عداوات الآخرين وكراهيتهم وتعرض الأمن القومي الاميركي للاعتداءات والدمار، وتستفز الآخرين لمقابلة عنفها بعنف مضاد.
يضيف تشومسكي، إنه باسم العدالة والقيم الاخلاقية ومبادئ الحرية شنت أميركا وتشن أسوأ الحروب ضد الآخرين، وتستخدم قوتها الطاغية في فرض «الحق الذي تدعيه» وتنتهك حقوق الانسان مثلما تنتهك سيادة الدول واستقلال الشعوب، وتمارس العنف والارهاب علانية باسم الشرعية الدولية، وهي حين تفعل ذلك لا تمل الحديث الممل عن فرض الديمقراطية وترويج قيم الحرية الأميركية!
ثم يتنبأ تشومسكي بقرب نهاية العالم وقيام القيامة؛ نتيجة المبالغة الأميركية في زيادة النزوع العسكري واعتماد القوة المسلحة، سواء أكان عن طريق ترسانتها النووية أم عن طريق عسكرة الفضاء، أم عن طريق تلويث البيئة الذي تتحمّل أميركا المسئولية الرئيسية عنه، باعتبارها أكبر دولة صناعية وأكثر دولة استخداما للمحروقات، والمتسبب الأول في انبعاث الغازات وبالتالي حدوث الاحتباس الحراري الذي بات يهدد البشرية بالفناء!
ليس هذا فقط ولكن تشومسكي يؤكد أن السياسات العدوانية والممارسات الخاطئة التي تمارسها الإدارة الأميركية الحالية بقيادة بوش وخصوصا سياسة شن الحروب في العالم، وتحديدا في أفغانستان والعراق فضلا عما تفعله «إسرائيل» بالفلسطينيين، قد أدى إلى زيادة العنف وصعود التيارات الدينية الراديكالية، بل تحويل الإرهاب إلى هدف يرتجى كي يقاوم الارهاب الأميركي، أما حكاية الاصلاحات الديمقراطية فلا مجال لها في عُرف الدولة الفاشلة!
تشومسكي لا يتحدث إلى الأميركيين فقط، ولكني أعتقد أن حديثه هذا في كتابه المهم، مهدى إلى الحكام العرب جميعا، وجماعة المتأمركين العرب تحديدا... لعلهم يقرأون ويستوعبون ويفهمون.
خير الكلام:
يقول إبراهيم ناجي:
إن يكن حلمـــا تولى مســرعـــا
أجمل الأحلام ما ولَّى سريعا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1608 - الثلثاء 30 يناير 2007م الموافق 11 محرم 1428هـ