ليلة كانت حزينة... ليلة أمس. هكذا كانت منذ ألف وثلاثمئة وسبعة وستين عاما، وستظل هكذا أبد الدهر.
تلك الليلة، شهدت ظهيرتها انجلاء غبار المعركة. جيشٌ صغيرٌ من سبعين رجلا وشابا وطفلا من الأحرار، في مقابل جيش بألوف الرجال من العبيد. وكانت النتيجة محسومة سلفا، فلا الجيش الصغير مستعدٌ للتسليم والانصياع لسلطة رجلٍ فاجر، ولا جيش العبيد مستعد للمناورة... فالأوامر كانت واضحة: التسليم أو القتل.
قبل أن ينسحب الجيش الظافر، مال إلى الخيام ليحرقها على من تبقّى فيها من أطفال بيت محمد (ص) وأهل بيته، ومع الغروب كانت قد أصبحت رمادا. في المساء كانت هناك امرأةٌ تتناوشها الهموم، فقد فقدت كل إخوانها وأبنائها، وأنصار أخيها. كانت تدور في الظلمة حول بقايا الخيام المحروقة. أما كيف مرّت عليها تلك الليلة... فالله وحده يعلم. لكن ما بأيدينا من روايات تاريخية تقول إنها حاولت أن تجمع الأطفال المذعورين في مكانٍ واحد، ولمّا اطمأنت إليهم، توجّهت إلى ساحة المعركة. كانت تبحث عن أخٍ لم تفارقه طوال خمسين عاما، إلاّ هذه الظهيرة، ذهب فارسا ولم يعد. عاد فرسه يحمحم، خالي السرج، وقد غطّته الدماء. كم كانت مشتاقة لرؤيته هذه الليلة... وكم كانت محتاجة لعودته في هذه المحنة الطاحنة الحارقة للأفئدة والقلوب.
كانت تبحث بين الأجساد المبعثرة على الأرض، فالجيش الظافر سحب أجساد جنوده معه، وهناك قبائل أخرى سحبت أجساد أبنائها من أنصار الحسين لئلا تتعرّض للرضّ بحوافر الخيول، وبقيت أجساد أحفاد محمد (ص) مع من ليس لهم عشيرة تؤويهم، فقطعت رؤوسهم ورفعت على الرماح، ثم مال «فرسان بني أمية» على الأجساد يرضّونها بحوافر الخيول.
وأخيرا... وصلت وسط الظلمة الحالكة إلى جسدٍ فجثت عنده، ربّما دلّها عليه أنه كان أكثر تقطّعا من غيره، وربما لأنه أكثر تعرّضا للسلب حتى قطعت إصبعه من أجل خاتم، وربّما لجراحاته التي لا تعد... وربما لأنها ميّزت رائحته الزكية التي لم تفارق أنفها طوال خمسين عاما إلاّ منذ ساعات. نحن الآن لا ندري، لم يقل أحدٌ من المؤرخين كيف تعرّفت عليه، ولكنها تعرفت عليه، فقد جثت عند هذا الجسد بالتحديد، لملمت أطرافه، لا ندري أيضا كيف كانت تشعر حينها، كيف تمالكت نفسها وهي تجمع الأشلاء وترفعها عن الأرض وترمق بطرفها السماء وتقول: «اللهم تقبّل منا هذا القربان».
أما قصّة الأطفال، فكانت تنتظرهم عذاباتٌ أخرى. فأمامهم طريقٌ طويلٌ طويلٌ، يتفنّن في تقريعهم بالسياط جنودٌ جفاةٌ عتاةٌ، نُزعت الرحمة من قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة. بعضهم مات في تلك الليلة الحزينة، وبعضهم قضى في الطريق إلى «خليفة المسلمين» يزيد بن معاوية، ليشفي بمنظرهم قلبه ويأخذ منهم ثارات أشياخه ببدر. وهكذا تناثرت قبورهم الصغيرة على الطريق بين الكوفة والشام، بعضها فوق جبل، وبعضها في بطن وادٍ، موزعّة بين حلب وبعلبك وحيّ الفراديس بدمشق.
ليلةٌ ما أحزنها... ليلة الحادي عشر من المحرّم، ستبقى حزينة جيلا بعد جيل، وستظل تكوي القلوب طويلا طويلا.
قاسم حسين
العدد 1608 - الثلثاء 30 يناير 2007م الموافق 11 محرم 1428هـ