لاتزال روح الحاجة آمنة بنت الحاج علي ترفرف على جدران مأتمها، كل زاوية منه تنطق بها، شاهدة على إصرارها - اللامحدود - على تشييد المأتم. فقد ناضلت الحاجّة كثيرا وذاقت الأمرّين في سبيل أن يظهر هذا المأتم للوجود، أرادت أن تكون بجواره في حياتها وفي مماتها معا، فانتقلت من حيّها القديم إلى برٍ قفرٍ لتعيش في بيت ملاصق لمأتمها الذي شيدته بجوار المقبرة التي ستحتضن قبرها. إنها قصة مأتم يذكّرنا بجهاد امرأة. إنها المَعلمة «أمّون» مَعلمة السنابس بأسرها، نساؤها ورجالها.
قصة تأسيس المأتم
كانت الحاجّة آمنة بنت الحاج علي بن الحاج عبدالنبي مدركة تماما أن تأسيس مأتم تعتريه صعوبات بالغة، ويحتاج إلى مزيد من الجهد والقدرة الهائلة على التحمل، ولكنها آلت على نفسها أن تتحمل المشقة في سبيل ذلك المآتم. ولِدت في منطقة السنابس، ولا تعرف حفيداتها أين تلقت تعليمها الأول، ولكنهن يؤكّدن من خلال ما ورد في سيرتها الأولى أنها حفظت القرآن في سن مبكرة، وكانت على درجة كبيرة من سرعة البديهة والحفظ وقوة الذاكرة، وفي الوقت ذاته تتمتع بشخصية قوية وقيادة نادرة.
بدأت تعليم البنات والأولاد؛ فلذلك عُرِفت بـ «المَعلمة»، وكانت تعقد المجالس الحسينية مع بقية نسوة السنابس في المأتم الوسطي أو ما يُعرف بـ «المأتم العود». وعندما قررت المَعلمة آمنة الاستقلال عن المأتم الوسطي استأجرت أرضا، وأقامت عليها مأتما خاصا بها، وظلّت تبحث عن أرضٍٍ لتشتريها لتقيم عليها مأتما دائما لها، وفي هذه الأثناء جاءت إليها إحدى نساء الحي الصالحات لتخبرها عن رؤيا رأتها في منامها عن امرأة تسير مع رجل والنور يحفّ بهما، وكأنما يبحثان عن شيء ما، وهما في جولتهما هذه توقفت المرأة فجأة عند أرضٍ بجوار مقبرة السنابس، وأشارت بيديها لتقول: «هنا يقام المأتم». حملت المَعلمة آمنة هذه الرؤيا على محمل الوصية، وكانت هذه الأرض ملكا لتاجر كبير من المنامة، عرضت عليه شراء الأرض، ولكنه رفض. استمرت في طلبها إذ كانت تستقل كل صباح سيارة أجرة، تذهب بها إلى المنامة لمقابلة التاجر لإقناعه بالبيع، ولكنه كان مصرا على الرفض. لم تفكّر في شراء أرض أخرى، إذ هي لاتزال تعقد المجالس الحسينية على الأرض المستأجرة، وعلى رغم العواقب والصعوبات التي ألمت بها فإنها كانت مصرّة على تحقيق رغبتها، مؤمنة بأن الأمر سيحل.
نقلت آمنة مأتمها إلى بيت أخيها بعد أن طلب منها صاحب الأرض المستأجرة أن تخلي الأرض، ثم انتقلت إلى بيت ابنتها الكبرى، وظلت كذلك حتى وافق التاجر على أن يبيعها الأرض، وأخيرا تحقّق حلم المَعلمة فأشرفت على بناء المأتم بنفسها، حتى قيل إنها استعانت بخطّاط من قرية كرزكان ليخط لها آيات قرآنية على سقف وجدران المأتم. هذا الرجل رفض أن يأخذ أي مقابل مادي، فحفظت له الجميل وظلّت طوال حياتها ترسل إليه وجبة غداء إلى منزله يوم السابع من محرم إيفاء لروح الأخوة والنخوة التي أظهرها شهيد اليوم السابع العباس بن علي (ع).
افتتحت المَعلمة مأتمها بجوار مقبرة السنابس في العام 1962 (1373هـ)، كما هو مؤرخ على الباب القديم للمأتم. ونظرا إلى كون الأرض قفرة وبيتها بعيد عن المأتم، قرّرت السكن في المأتم تاركة الأهل والأحباب. هذا الأمر دفع زوجها الحاج حسن بن أحمد بن جمعة إلى الطلب من ابن أخيه وزوج ابنته الحاج أحمد بن عبدالله بن أحمد بن جمعة أن يبني منزلا له بجوار المأتم ليقيم مع عمته المَعلمة آمنة، التي ظلت تقيم المجلس الحسيني صباحا ومساء، عاكفة على تأليف كتب النعي، مستقبلة زوارها من كل حدب وصوب.
وصية المأتم التي ذهبت إلى العراق
من حرصها الشديد على المأتم، أرادت أن تؤسس نظاما للمأتم يحفظ كيانه بعد وفاتها، فكتبت وصيتها التي بدأتها «الحمدلله الذي أمر بالوصية قبل حلول المنية، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للبرية وعلى آله المختارين...» هذه الوصية حوت جوانب عدة: منها أنها حصرت إدارة المأتم في بيت ابنتها خديجة «وقد جعلت على ذلك زوج ابنتي خديجة الحاج أحمد بن عبدالله بن أحمد بن جمعة المعترف بالقبول لتنفيذ الوصية...»، كما أنها خطّطت لهيكلة دائمة لمبنى المأتم «أن الأرض الملاصقة للمأتم من جهة الشمال فهي وقف للمأتم وإليه ريعها وليست جزءا من المأتم بل موقوفة عليه»، أي أنها جعلت الأرض الشمالية أرض وقف للاستثمار للمأتم، فعندما أراد حفيدها إعادة بناء المأتم حاول توسعته من الجهة الشمالية، ولكنه اصطدم بالوصية، فتوجّه بها إلى العراق؛ ليرى رأي المرجعية فلم يجز له تغيير الوصية؛ لذلك تم بناؤها وتأجيرها لصالح المأتم.
كما أن المَعلمة أسست نظام القيمومة (وهو الشخص الذي يقيم بالمأتم، ويتولى خدمة المأتم والإشراف عليه ويعرف محليا بالقيّم)، إذ تشير في وصيتها إلى «ثم إن الدار الغربية التي في قاعة المأتم هي للمأتم والذي يقيم بالمأتم حق النزول فيها بغير أجرة». وتشير حفيدتها أم محمد إلى أن جدتها أسكنت في هذه الدار امرأة تدعى أم إبراهيم ومعها زوجها، وكانت الأخيرة تقوم بالإشراف على المأتم، ولم تنسَ المعلمة مخزن المأتم «أما الدار الجنوبية فقد خصّصتها لأغراض المأتم وهي قسم منه...». كما أنها تركت الأمر لمن بعدها في تجديد المأتم «وعلى الموصي تجديد أو تبديل ما تلف منها متى ما استطاع ذلك هو ومن يقوم مقامه في شئون المأتم».
أما على المستوى الشخصي، فقد حوت وصيتها مطلبين هما «أن يقيم لي فاتحتين رجال ونساء ويخرج عني زيارة نيابة لي من مالي». وتكفل أحفادها بتنفيذ وصيتها بعد وفاتها العام 1975، إذ سافرت إحدى حفيداتها إلى إيران لزيارة الإمام الرضا (ع) نيابة عن جدتها العام 1992، وبعدها قام حفيدها حسن بتأدية العمرة وزيارة النبي (ص) وأئمة البقيع نيابة عن جدته العام 1997، وفي العام 2001 زارت حفيدتها أم محمد أئمة العراق نيابة عنها أيضا. وأشارت في نهاية وصيتها إلى أن ذلك كان بمحض إرادتها إذ تقول: «هذا ما أوصيت به وإني في صحة من بدني وكمال رشدي واختيار من نفسي».
مأتم متجدد
كانت المعلمة توصي بناتها ومنسبات مآتمها أن يبقى المأتم مفتوحا للجميع ويخدم أهالي المنطقة، إذ إنها فتحت مأتمها لعمّال الكهرباء لوضع جميع مستلزماتهم داخل المأتم عندما كانت السنابس تمدّ بأعمدة الكهرباء، هذا الأمر انتقل إلى حفيداتها اللواتي فتحن المأتم لتعليم علوم القرآن للفتيات وتعليم الصلاة للصغار، كما أنهن بدأن إدخال نظام المحاضرات أيام إحياء ذكرى عاشوراء؛ ليبقى مأتم المعلمة نابضا بالحياة على رغم وجوده بجانب المقبرة.
العدد 1608 - الثلثاء 30 يناير 2007م الموافق 11 محرم 1428هـ