العدد 1607 - الإثنين 29 يناير 2007م الموافق 10 محرم 1428هـ

الخرافات السياسية العربية

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

كثيرا ما حيرتني أسئلة مفادها: لماذا جمهورنا العربي غارق في الخرافات السياسية التي تقود إلى التيه السياسي؟ وهل هذا الانغماس في الخرافة نتيجة وعي وسبق إصرار، أم هو ناتج عن مصالح، أم هو نتيجة تضليل إعلامي بالغ العمق وطويل الوجود في فضائنا العربي؟

كل تلك الأسئلة عاودتني وأنا أغادر مبنى محطة «الجزيرة» القطرية مساء الخميس الماضي بعد مقابلة كان من المفترض أن تكون مقابلة سياسية راقية تناقش فيها الأمور المطروحة بعقل، إلا أنها مع الإعداد والأسئلة التي جاءت مما يمكن بتسميته «الجمهور الخفي» تحولت إلى جهد مضنٍ لنفي الخرافة بدلا من توضيح الصورة.

كان السؤال المركزي هو امن الخليج، أو كيف يحمي الخليج نفسه. واجتهدت في الرد، أن امن الخليج «مسئولية عالمية» تشارك فيها كل الدول التي لها مصلحة في الاستقرار، وضمان تدفق الطاقة النفطية التي لا يمكن للعالم الحديث من الصين حتى الولايات المتحدة مرورا بأوروبا أن يستغني عنا. بدا لي أن هذا طرح عقلاني ومنطقي، إلا أن الأمر ليس كذلك كما تبين لي.

أحد المرتكزات التي تنبني عليها الأطروحات المضادة، وهي غير عقلانية في نظري، أن مجتمعات الخليج «هشة» ولا اعرف كيف يمكن أن يساق مثل هذا التوصيف، لأنها لا تستطيع - يذهب القائل بذلك الرأي - أن تدافع عن نفسها؟ ويبدو أن الأمر منطقي لبعض المتسرعين.

ولكن السؤال الأعمق هو: أين توجد الدولة «الواحدة» التي تستطيع أن تدافع عن نفسها، بالمطلق، إن تعرضت لعدوان لا طاقة لها به؟

أوروبا على رغم عددها وعديدها، بما فيها الاتحاد السوفياتي، احتاجت إلى الدعم الأميركي في الحرب العالمية الثانية، وفوق ذلك بعد الحرب احتاجت مرة أخرى إلى الدعم الاقتصادي الطويل فيما عرف بخطة مارشال.

أوروبا مرة ثانية قبل سنوات، وأيضا بمقدرتها الكبيرة حجما وسلاحا احتاجت مرة أخرى لأميركا من اجل استتباب الأمن في جمهوريات يوغسلافيا السابقة المتناحرة، فيتنام الشمالية احتاجت إلى دعم طويل ومكلف من الصين في حربها ضد الولايات المتحدة، وهناك عدد كبير من الأمثلة التاريخية ومن منطقتنا في عصرنا الحديث، كلها تأخذنا إلى حقيقة مفادها أن ثمة «تحالفات» تتم بين الدول من اجل الدفاع عن مصالح مشتركة، فلولا صواريخ قادمة من إيران ومصنعة بالتعاون مع دول أخرى خارجها، لما تهيأ لحزب الله مثلا أن يمانع الاجتياح الإسرائيلي على لبنان في الصيف الماضي، ولولا أسلحة من المعسكر الاشتراكي لما خاض العرب جل حروبهم السابقة مع «إسرائيل»، إلى آخر ما يعترف به العقلاء من أمثلة تدل على أنه ليس ثمة مثلبة في التعاون الأمني بين دول ومنظومات تتوافق أجندتها السياسية والمصلحية. لماذا إذا في الخليج فقط يطالب البعض بأن يكون الدفاع خالصا مخلصا خليجيا، تلك هي مناولة سياسية تعود إلى الخرافة والفهم السطحي الذي يتعذر فهمه من العقلاء.

قلت إن من بعض الخرافات السياسية التي تظهر على السطح هي ما ان يشير المرء بالمسئولية «العالمية» حتى ينساق الجميع وراء اكتشاف عبقري، أن المتحدث يعني «الولايات المتحدة» وهناك لبس عربي كبير بين «العالمية» و «الأميركية» نافين في ذهنهم وجود أوروبا والصين والهند واليابان من بين دول أخرى كثيرة في الشرق والغرب. وهو ضعف في تكوين العقل السياسي الجماهيري العربي، بسبب عدم التفات أن العالم لم يعد قرية فقط، بل أصبح بناية ضخمة يتجاور فيها الجميع ويتبادل المصالح، كما أن هذا العالم له مرجعيات تسمى المنظمات الأممية، التي تفرض نمطا معينا من السلوك الجمعي.

إذا أخذنا واحدا من السلوك الجمعي فإن الإشارة محتمة إلى منظمة التجارة العالمية التي تفرض نمطا من التعاون له شروطه العامة التي يجب أن يمتثل لها كل الأعضاء المنضمين لها، ومن هو خارجها.

كما أن منظمة مثل الأمم المتحدة بوكالاتها المختلفة لا تستطيع دولة اليوم أن تغرد خارج سربها. فالعالمية ليست الأمركة، وإن كانت الثانية لها تأثير كبير في الأولى.

من ضمن الخرافات السياسية لدى البعض أن نقد سياسة حكومة «الجمهورية الإيرانية» في قطاع من القطاعات وخصوصا موضوع التقنية النووية، هو الوقوف قطعيا ونهائيا مع ما تريده الولايات المتحدة، وهو رأى خاطئ لعدد من الأسباب. أولها أن لا احد عاقلا - مرة أخرى - يرفض أن تقوم «الجمهورية الإيرانية» بما تريد أن تقوم به كما تعلن في تسخير التقنية النووية في الأغراض السلمية، ذلك من حقها كما هو حق كل الدول، وتنظم ذلك مواثيق وعهود دولية معروفة للمختصين. الخلاف هو في الهواجس من استخدام التقنية النووية في الأغراض العسكرية، ولها في هذا المقام أيضا مواثيق وعهود دولية تنظمها، كما لها مؤسسات مراقبة تتابعها.

الخلاف هو أن هناك الكثير من الهواجس التي لا يبدو أن بعض الجانب الإيراني السياسي منتبه لها. بدليل أن الكثير من العقلاء الإيرانيين أصبح لهم صوت عالٍ في المطالبة بالكف عن التصريحات «العنترية» ويطالبون بالتعاون الأوثق مع المؤسسات الدولية في هذا المجال لتخفيف/ ومن ثم إزالة تلك المخاوف.

أما الهواجس الأخرى من إيران فهي منصبة على ما اصطلح على تسميته بسياسة «تصدير الثورة» وهو أمر يجد معارضة حقيقية من قطاع عربي واسع، وهذا التصدير ليس متخيلا بل له مظاهر ملموسة في كل من العراق ولبنان وفلسطين. وهو تصدير سياسي، ولا يجوز الانحراف به إلى المجال الطائفي، لأنه في حقيقته جناح راديكالي، يشترك مع الراديكالية السنية أيضا، وإن بدا أن هناك تناقضا بينهما في الأفكار فكلاهما يلتقي في الأهداف، وهي قلب القائم من الأمور.

هذا الموقف لا يعني العداء للمذهب وإن تم بناء على ذلك فهو غباء يستفيد منه السياسيون المؤججون للفتنة وتنتفي منه مصالح الشعوب الحقيقية. وللإجابة على السؤال: كيف يمكن لنا أن نقلل وربما نزيل الهواجس تلك؟ يمكن القول إن الالتجاء إلى منظمات الأمم المتحدة الناظمة لمثل هذه الأعمال، كمنظمة الطاقة النووية الدولية، يفرغ الشحن السياسي والمصطلحي، ويقدم الأعمال الإيرانية على حقيقتها، وكلما تمنعت إيران عن مشاركة تلك المؤسسات زادت الهواجس. أما التدخلات في كل من العراق ولبنان، فإن عدم الحديث عنها هو بمثابة تغرير للإخوة الإيرانيين، وإخفاء للحقائق، بأن هذه التدخلات تصب في إثارة الهواجس لدى أطراف عربية مهتمة وفاعلة.

الطريقة التي تقدم بها السياسة الإيرانية في الفترة الأخيرة تصب الزيت على النار، لقد قامت إدارة السيد محمد خاتمي بجهد كبير في تعويم المصالح الإيرانية في جو من الألفة والثقة في محيطها الإقليمي وفي محيطها الدولي، أما الآن فإن الإدارة الحالية ذات المنحى الصقوري تؤلب عليها الكثير من القوى، إذ تزداد شكوك تلك القوى تجاه النيات الإيرانية الرسمية.

القول بذلك لا يعني في موضوع امن الخليج أن أية أجندة أميركية، تخدم المصالح الأمييكية فقط مرحب بها خليجيا، ولكن في الوقت نفسه فإن تخفيض حدة الهواجس العربية عملية مطلوبة من الدبلوماسية الإيرانية في الاتجاهين، الملف النووي والطموحات الإقليمية.

المؤسف أن مثل هذه الأطروحات التي تخاطب العقل، تقع على عقول مسبقة التكيف فلا تفهم ولا تجد لها حتى آذانا صاغية. بدليل أن تلك السيدة التي قدمت المقابلة التلفزيونية كان لديها موال في ذهنها رتبه احدهم ربما اتساقا مع رأي العوام، وفي ذهنه خطأ أنه يخدم الوعي العربي.

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1607 - الإثنين 29 يناير 2007م الموافق 10 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً