إنّ المرحلة التي يمرّ فيها موسم عاشوراء هذا العام هي من أدقّ المراحل وأخطرها، وهي مرحلة الفتنة الكبرى التي تتحرّك على امتداد العالمين العربي والإسلامي، إذ بات الواقع الإسلامي والعربي يعيش حال طوارئ أمنيّة وسياسيّة، ونهب اقتصاديّ.
فمن العراق الجريح، الذي زاده الاحتلال عمقا وألما، والذي تتحرّك الفتنة المذهبيّة فيه، بحيث يستبيح فيها المُسلم دم المسلم من مذهب آخر، إلى أفغانستان التي لا يملك فيها المواطنون أيّ قاعدةٍ للأمن، إذ يستبيح الناس دماء بعضهم بعضا على أساس بعض العناوين السياسية التي يحملها هذا أو ذاك. إلى فلسطين، التي تمثّل الموقع الإسلامي الذي يختصر كلّ خطوط السياسة الإسلاميّة في حركة الصراع ضدّ الصهيونيّة والاستكبار، والتي دخلت أيضا على خطّ الفتنة الداخليّة، فبات المُسلمون يقتلون بعضهم بعضا تحت عناوين حزبيّة أو فئويّة.
كما نجد الفتنة التي تُحرّكها الولايات المتّحدة الأميركية بين إيران وجيرانها في العالم العربي، ولا تزال توحي للجميع بأنّ إيران تمثّل خطرا على الخليج والبلدان العربيّة الأخرى، وتحت هذه الحجّة تتحرّك أميركا بعتادها العسكري وحاملات طائراتها لتملأ الخليج كلّه، في خطّة لن يسلم منها حتى الدول العربيّة.
وإذا انطلقنا بعيدا، نحو الصومال، ذلك البلد الأكثر بؤسا وفقرا، نجد الاختلال الأمني، سواء بين المواطنين أنفسهم، أو من قبل الجهات الخارجيّة، وخصوصا الأميركية والأثيوبيّة.
وإذا عُدنا إلى لبنان، نجد أنّ الوضع السياسي والأمني يعيش حال اهتزاز، من خلال الخطّة الأميركية والأوروبّية التي تتدخّل في الشئون الداخليّة بالدرجة التي تمنع اللبنانيّين من أن يتّفقوا، أو يصلوا إلى حلّ واقعيّ دستوريّ ميثاقيّ للأزمة. وعلى خطّ آخر، نرى كيف يُحاول الرئيس الأميركي أن يهدّد المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، ويُعطي لجنوده الحرّية في قتل أيّ فردٍ من هذه الجهات.
إنّ ترافق تأجيج المسألة المذهبيّة مع الحملة الظالمة المسعورة التي تطاول الإسلام في عقيدته وثقافته ومقدّساته وخصوصا في الإعلام الأميركي والأوروبي، يوحي بأنّ هناك حملة عالميّة ضدّ الإسلام كدين، وضدّ المُسلمين كعُنصر مناهضٍ لمشاريع الهيمنة في المنطقة.
إنّنا نُخاطب المُسلمين جميعا في عاشوراء، التي تعبّر عن حركة إسلاميّة إصلاحيّة قام بها إمام المسلمين الحسين بن عليّ (ع)، الذي لم يطرح المسألة المذهبيّة الفئويّة، بل طرح الإصلاح في أمّة الإسلام، وكان ينظُر من خلال رسالته، رسالة الإسلام، إلى الأمّة الإسلاميّة في كلّ مواقعها، فانفتح على المرحلة التي عاشها وتطلّع إلى المستقبل في كلّ ما أطلقه من كلماتٍ وانطلق به من مواقف... إننا نخاطبهم لنقول: إنّ شعارات كربلاء، التي لم تكن إلاّ شعارات الإسلام ،وكلّ الرسالات السماويّة، تدعونا لنجعلها شعاراتٍ لحركتنا ضدّ الفتنة، وضدّ كلّ مواقع الاستكبار والاحتلال.
فقد قال الحسين (ع): «خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»، وقال: «لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد»، وقال: «هيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون». ومن أعظم خطوط الإصلاح والحفاظ على عزة المسلمين منع التقاتل الداخلي ورفض الفتنة في الواقع الإسلامي بين المسلمين، والعمل على الأخذ بأسباب العزّة والكرامة والحرّية في قرارات المسلمين، ومواقفهم في كلّ مواقعهم.
إنّ أوّل خطوةٍ في حلّ مشاكلنا هي أن نأخذ بأسباب الوحدة الإسلاميّة، التي نكون من خلالها كالبنيان، يشدّ بعضه بعضا، واثقين بالله، وبذلك يحترمنا العالم من حيثُ نحترم أنفسنا، ونكون شركاء في القرار في قضايا العالم، ونكفّ عن أن نضع أنفسنا في هامش القرارات العالمية التي تتحرّك بها دوائر الاستكبار العالمي.
إنّ هذه المرحلة تفرض على المسلمين جميعا أن يرجعوا إلى الخطوط الثقافيّة الحضاريّة الإسلاميّة، وأن تتحوّل هذه الثقافة إلى موقفٍ إسلاميّ يمنع المسلم من أن يعتدي على المسلم الآخر، بل يمنعه من الاعتداء على الإنسان الآخر، مهما يكن دينه؛ لأنّ العدوان مرفوضٌ في الإسلام.
ونتوجّه إلى إخواننا وأبنائنا في لبنان: لا تحوّلوا الخلافات السياسيّة إلى خلافات مذهبيّة؛ لأنّ ذلك لن يكون لمصلحة المسلمين السنّة ولا المسلمين الشيعة، بل يؤدّي إلى إسقاط الروح الإسلاميّة، وإضعاف الالتزام الإسلامي، وشلّ الحيويّة الإسلاميّة، وضياع المصير في ذلك كلّه.
كونوا متنبّهين للذين يوظّفهم الاستكبار العالمي، سواء كانوا من المسلمين أو من غيرهم، ممّن يتحرّكون في خطوطه السياسيّة، والذين يعملون على إثارة الفتنة في داخل المسلمين؛ لأنّ نار الفتنة عندما تشتعل، فإنّها تُحرق الأخضر واليابس، وتُسقط الهيكل على رؤوس الجميع.
إنّنا نقول للجميع؛ ممّن يلتزمون الخطّ الحسيني على المستوى المذهبي، أو ينفتحون على الخطّ الحسيني على المستوى الإسلامي العام: احترموا خصوصيّتكم الإسلاميّة، وحافظوا على مقدّساتكم، والتي أوّلها دماؤكم، وواجهوا التحدّيات التي يريد من خلالها الاستكبار أن يخلط الأوراق في الواقع كلّه، فلا تضيعوا في متاهات الخطوط الضيّقة التي تُمكّن أعداء الأمّة والإنسانيّة من تنفيذ مخططاتهم.
وجّهوا جهودكم نحو الاحتلال، أيّا كان، سواء في العراق أو في أفغانستان أو في فلسطين، ونفّسوا ضدّه أحقادكم الطارئة فيما بينكم. وكونوا مقاومة ضدّه، على كلّ المستويات، واجعلوا خطوطكم تتحرّك مع الذين يحترمون دماء المسلمين، ويقفون ضدّ الذين يكفّرون المسلمين، ويستحلّون دماءهم.
إنّ رسالة عاشوراء هي رسالة الإسلام، وهو اليوم في خطرٍ داهم، والمسلمون اليوم في فتنة عظيمة، والله تعالى يقول: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاء فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانَا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ،وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وأولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ،وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (آل عمران: 103 - 105). اللهُمَّ هل بلَغتُ؟ اللهُمَّ اشهد.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1607 - الإثنين 29 يناير 2007م الموافق 10 محرم 1428هـ