لا يُمكن أبدا أن يبقى التقابل القائم اليوم بين العالم العربي والجمهورية الإسلامية الإيرانية يمخر من دون ضبط وسط دفوع تحريضية تقتات من أزمات المنطقة المتعاظمة وفي طليعتها أزمة احتلال العراق الخانقة قبل أن ينزل صمت العقل علينا وتتحرك قعقعة السلاح.
وإذا كان نقد السياسات الإيرانية الداخلية والخارجية هو شأن أهله هناك والمبضع المرغوب لدى أحزاب الظل في إيران سواء في دولة اليمين المحافظ أم في زمان اليسار الديني الراديكالي، فإننا نحن العرب على الضفة الغربية تكون مسئوليتنا جرد الأفهام وتقويم السلوك والسياسات القائمة وإبطال جميع أنواع عبوات الصدام مع أحد، لأن حاضنتنا الجغرافية والوطنية هي الوعاء الذي بقي لنا في عالم تقاسمه الكبار، وبالتالي فمن الجهل والبُؤس التفريط فيه أو رميه أضحية لمغامرات سياسية هي في الأصل مشروعات حرب أنغلوساكسونية توارثها أحفاد الاستعمار منذ الثورة البيضاء... لذلك فإنه لم يعد مقبولا أن نسمع أحدا من إخواننا الخليجيين على إحدى الشاشات العربية يصف مفاعل بوشهر النووي الإيراني بـ «الخردة» أو أن يُثني آخر على موقف الكيان الصهيوني لأنه أرجع للفلسطينيين قطاع غزّة مُعتبرا ذلك مدخلا لعلاقات مُستقرّة مع ذلك الكيان ويستهجن في الوقت نفسه موقف طهران من الجُزُر المتنازع عليها مع دولة الإمارات العربية المتحدة (جزيرة أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى) في مقاربة تبدو كرقصة كومبيامبا! ولم يعد مفهوما أيضا الاستنكاف العربي الواسع لمؤتمر الهولوكوست الذي عُقِد في طهران خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي على رغم أن هذا المؤتمر لم يكن إلاّ كسرا لتابو مزعوم دَرَجَت الصهيونية العالمية على الاحتفاظ بعذريته للحفاظ على كسب خرافة تاريخية لاستحلاب المال الألماني بواقع مليار دولار سنويا ومشاعر الغرب.
لقد كان هذا المؤتمر بالنسبة إلى العرب فرصة جيدة لإعادة إنتاج أدوات الصراع وضمّها للمتاح، لكن للأسف بات التعيير والتجيير هو اللغة السائدة، بل الأكثر من ذلك فإن المنظمات والشخصيات الأوروبية وحتى اليهودية التي لا تعترف بالكيان الصهيوني استفادت منه في حين بقي العرب ينظرون له بريبة بلهاء.
ولتقريب المشهد لمن لا يرى جيدا يُمكنه تتبع ما تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع يوم الجمعة الماضي من قرار يدين الهولوكوست التي وقعت بحق اليهود على أيدي النازية القرن الماضي، برعاية الولايات المتحدة ومئة دولة أخرى، إذ جاء في القرار أن الجمعية العامة «تدعو جميع الدول الأعضاء أن ترفض ومن دون تحفظ أي إنكار للهولوكست كحدث تاريخي، سواء بشكل كامل أو جزئي أو فيما يتعلق بالأنشطة المرتبطة بهذا الحدث»!
الأكثر من ذلك فقد باتت مُصطلحات الصفوية والفارسية واستدعاء نماذج الرايخ الثالث في تقديس «العنصر الآري الجرماني» واستهواء الحركة الرومانسية المثالية transcendentalism، موضة رائجة لا يعرف أحد خطورتها.
إن توهين الشعوب ومحاولة إفقارها حضاريا والانتقاص من هويتها ليس مزحة أو «خدروف» يتم التلاعب به، بل هو يُعد في الاستراتيجيات الحديثة أداة من أدوات الحرب والاستفزاز، لذلك فليس من المعقول أن يتم شحن الإعلام العربي وتضخيمه بهذه النعوت فلا مصلحة لأحد في ذلك سوى لمن يريد للنار أوارا.
ولأن الذاكرة لا تحتاج إلى إعمال أكثر... فإن الحديث عن فوبيا عربية من البرنامج النووي الإيراني يجعلنا نتساءل عن غياب ذلك الخوف من البرنامج النووي الباكستاني (على رغم عسكريته) الذي شُيّد بمال عربي وبمباركة عربية، بل الأكثر هو مدى جدية الحديث والتخوف من البارجات الأميركية المُحمّلة برؤوس نووية حربية وهي تجوب مياه الخليج!
إن الروابط القائمة بين العرب والإيرانيين ليست شعارا أجوف وليس استدعاء لمجهول أو تخليقا مُصطنعا بل هي نتاج تراكم تاريخي سحيق له من المفاعيل الجغرافية والسياسية والسوسيولوجية التي تفرض خياراتها ومصالحها على الجميع، إلى الحد الذي أضحت فيه اللغة الفارسية صنوا قريبا في أصله للعربية (60 في المئة من الكلمات الفارسية هي ذات أصول عربية).
إن علماء اللغة يُدركون كيف كانت المصادر البلاغية المكتوبة ركنا أساسيا للتثاقف المشترك بين الحضارتين الفارسية والعربية فكانت نشأة علوم المعاني والبيان والبديع باللغة الفارسية معتمدة اعتمادا كبيرا على المؤلفات العربية، ولولا قيام الصّفّاريّين في الجنوب الشرقي من إيران بتشجيع شعراء البلاط باعتماد اللغة الفارسية الدّريّة لسادت العربية عليهم وعلى السامانيين أيضا لقوة حضور اللغة العربية هناك، كما لا يشك أحد أيضا في ما ساهمت به الحضارة الفارسية في حضارة العرب والإسلام، وخصوصا العربية وتقعيدها وجمعها حتى قال إبن خلدون: «إن أكثر حَمَلَة العلم في الإسلام كانوا من العجم»، فظهر أبو حنيفة النعمان بن ثابت ومحمد بن اسحق الواقدي صاحب المغازي، والإمام الشافعي ومحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري ومسلم ابن الحجاج القشيري النيسابوري والفيروزآبادي وغيرهم كُثر، وعُرّبت ألفاظ لا تُحصى من الفارسية إلى العربية كالإستبرق والإفريز والبلاس والتسّخان والجُداد والجُلاهق والجورب.
إن الحديث عن هذه الأمور أجدى وأنفع من لغة دق طبول الحرب النفسية والاستفزاز، ومن مجاراة عمياء لمعارك الآخرين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1606 - الأحد 28 يناير 2007م الموافق 09 محرم 1428هـ