تواصل إدارة جورج بوش إرسال تعزيزات عسكرية إلى منطقة الخليج والعراق فنشرت شبكة من بطاريات صواريخ «باتريوت» المضادة للصواريخ وأوعزت للقيادة البحرية بحشد المزيد من حاملات الطائرات والصواريخ وكاسحات الألغام ورفعت من قواتها البرية في بلاد الرافدين.
هذه التحركات العسكرية لفتت انتباه الكونغرس الأميركي فأقدم نواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على رفع مذكرة تطالب «البيت الأبيض» بتوضيح الأسباب الموجبة لمثل هذا الحشد الذي يخالف توصيات لجنة بيكر - هاملتون. واقتصر جواب الإدارة على أن هذه التعزيزات دفاعية ولا تتضمن خطة هجومية ضد طهران وهي اضطرت إليها للحد من نمو النفوذ الإيراني في العراق. الجواب الذي أعطته إدارة بوش لم يكن مقنعا؛ ما اضطر نواب الديمقراطي إلى تحذير واشنطن من احتمال افتعال حرب تورط الدولة في مشكلات إقليمية جديدة.
كذلك أثارت التعزيزات الأميركية انتباه روسيا وتساءلت قيادتها عن المعنى السياسي لهذه الحشود معتبرة أن العودة إلى أسلوب نشر الصواريخ يذكر العالم بتلك التكتيكات التي كانت متبعة إبان «الحرب الباردة» وأبدت موسكو خشيتها من لعب هذه القوات الإضافية دورا يزيد القلق والتوتر في المنطقة.
لم يقتصر رد الفعل على الكونغرس والكرملين بل صدرت تحذيرات وتنبيهات من جهات دولية وعربية مختلفة. رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي طالب خلال قمة دافوس الولايات المتحدة بعدم اللجوء إلى الحل العسكري ونصحها باعتماد الدبلوماسية وسيلة وحيدة لاحتواء الأزمة. كذلك فعل الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، إذ حذر من مغبة الحرب وتداعياتها الكارثية على منطقة «الشرق الأوسط».
حتى الآن تنفي واشنطن أنها تخطط للحرب. وتؤكد دائما دفاعية التحركات العسكرية وسلميتها وأنها تريد فقط مواجهة النفوذ الإيراني في العراق ولا تفكر في تجاوز الحدود. ولكن هذا النفي الكلامي يترافق مع تحركات وتعديلات ومناورات تشير إلى وجود تفكير في استخدام القوة في حال لم تلتزم طهران تلك الفقرات التي نص عليها القرار الدولي 1737 الذي صدر قبل شهر عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع. والقرار ينص على وقف التخصيب وتفرعاته التصنيعية والبحثية وتعليق برنامج الصواريخ البالستي.
بقي الآن نحو شهر على المهلة الزمنية التي نص عليها القرار الدولي ويرجح أن تصل إلى المنطقة قبل نهايته المزيد من السفن والحاملات والكاسحات والتعزيزات. وهذا الحشد المتوقع تراهن عليه واشنطن للضغط السياسي على طهران وإقناعها بضرورة التجاوب مع قرارات الدول الكبرى.
في المقابل تبدو القيادة السياسية في إيران في وضع بدأ الانتقال من حال الاستخفاف والتقليل من أهمية قدرات الولايات المتحدة العسكرية إلى حال الانتباه من خطورة الحشد ومعنى تلك الرسائل التي تريد إدارة بوش توجيهها إلى المنطقة. حال الانتقال تأخرت قليلا؛ لأنها جاءت بعد تدويل الملف النووي وليس قبله؛ وهذا ما أعطى واشنطن أفضلية للمناورة وذريعة سياسية للحشد العسكري.
هناك فرصة
التأخر في الانتباه لا يعني أن الفرصة فاتت. فهناك الكثير من الأوراق تستطيع طهران استخدامها لمنع تفاقم الوضع على الجبهتين العراقية والخليجية. ومن تلك الأوراق إبداء إيران استعدادها للتعامل بإيجابية مع فقرات القرار 1737 الذي أصبح الآن أمرا واقعا ولا يمكن تجاهله بعد صدوره بالإجماع عن دول مجلس الأمن. والتجاوب يعني وقف التخصيب، وتعليق برنامج الصواريخ.
هذا على الأقل ما يمكن فهمه من التلميحات الأميركية التي تتخذ من الأمم المتحدة منصة سياسية للضغط العسكري على إيران. وهذا أيضا يمكن التقاطه من تلك الإشارات الجديدة التي أخذت طهران ترسلها إلى دول المنطقة والعالم.
القيادة السياسية في إيران بدأت تمر الآن في مرحلة انتقالية. سابقا كانت ترفض بقوة وبوضوح كل محاولة للبحث في هذا الموضوع حتى إنها تجاهلت كل الاقتراحات التي عرضتها دول الاتحاد الأوروبي من «إجراءات تشجيعية» و «حوافز» كذلك لم تتعاون بإيجابية مع البدائل الجزئية التي قدمتها موسكو وبكين.
انطلقت طهران في سياستها سابقا من موقف مبدئي صحيح معتبرة أنه من حقها الطبيعي أن تبحث عن مصادر بديلة للطاقة وأن القانون الدولي لا يمنعها من حق تنويع مصادر الطاقة. هذا الموقف المبدئي الصحيح تلاعبت به واشنطن مستفيدة من حملة الضغوط التي مارستها اللوبيات الصهيونية في أوروبا وأميركا التي أثارت زوبعة من المخاوف على وجود «إسرائيل» وأمنها بعد صدور تلك التصريحات العنيفة من الرئيس محمود أحمدي نجاد.
بناء على استنفار الوضع الدولي وإثارة قلقه نجحت الولايات المتحدة في كسب الوقت، وحرق المراحل وجرجرة الملف النووي من فيينا إلى نيويورك إلى أن توصلت إلى تدويل الملف، ونقله من وكالة الطاقة إلى مجلس الأمن.
الآن هناك نحو الشهر يفصل بين المهلة القانونية المتبقية وعودة الدول الكبرى إلى إعادة فتح الملف بناء على تقرير يتوقع أن يقدمه الأمين العام للأمم المتحدة إلى أعضاء المجلس بشأن التقدم أو التأخر الذي يتعلق بالموضوع. وهذا يعني أن هناك فترة زمنية محدودة أمام طهران لإعادة النظر في تفصيلات الملف وتوضيح موقفها من الكثير من النقاط الملتبسة التي نص عليها القرار الدولي.
قبل أن تنتهي المدة بدأت تصدر عن طهران إشارات ايجابية بشأن الموضوع؛ ما يشير إلى بداية انتباه إلى تلك المرامي الأميركية من وراء التعزيزات والحشود. وتعزز هذا التوجه الجديد ميدانيا حين أسفرت انتخابات مجلس الخبراء والبلديات عن ظهور قوة ثالثة تجمع بين تيارات معتدلة من «المحافظين» وتيارات منفتحة من «الإصلاحيين» تتوافق على ضرورة الدخول في قراءة جديدة للملف النووي.
هذا النمو الجديد للقوة الثالثة انعكس على التوجهات العامة وبدأ يؤسس خطوات واقعية وتتعامل بحذر مع تلك التصريحات العنيفة التي تقلل من شأن الحشود البحرية والتعزيزات العسكرية أو تلك التحليلات المتسرعة التي تراهن على التورط الأميركي في بلاد الرافدين وعجز الولايات المتحدة خوض حروب أو حتى الدفاع عن مواقعها الاستراتيجية ومصالحها النفطية وأمن «إسرائيل».
وفي هذا الخصوص صدرت تلميحات عن وجود تكتل رباعي جديد، يتألف من رفسنجاني وكروبي وخاتمي وولايتي، وليس بعيدا عن المرجعية الروحية العليا في تحركاته وفي توجهاته وفي اتصالاته. فهذا التكتل كما يبدو قرأ جيدا خطورة الوضع ودرس بعناية فقرات القرار 1737 وأدرك ما يقوله بين السطور. وبناء على هذا التحليل الجديد ظهرت سلسلة مواقف نقدية تنبه من مخاطر الانزلاق نحو مغامرة قد تطيح بكل الإنجازات التي حققتها الثورة والدولة في العقود الثلاثة.
حتى الآن لم تتبلور تلك الإشارات والتنبيهات في صيغ واضحة أو برنامج عمل يدرك خريطة الطريق الدولية وتشعباتها المثيرة للجدل... إلا أن المجموع العام لتلك التوجهات التي أخذت تظهر على سطح السياسة بدأت ترسم ملامح صورة مضادة يمكن التقاط عناوينها من تلك الأنباء المنقولة عن مصادر القرار في طهران. وكل الأخبار تقول: إن هناك حالات من اليقظة والانتباه وإن القيادة السياسية الآن تمر في مرحلة انتقالية من حال الاستخفاف بقوة الخصوم إلى حال من التعامل الإيجابي مع عناصر الملف النووي وتفرعاته وما يعنيه من امتدادات إقليمية تظهر خيوطها في تلك الأزمات المترابطة من العراق إلى لبنان.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1606 - الأحد 28 يناير 2007م الموافق 09 محرم 1428هـ