ما يميز مآتم المنامة عن مآتم القرى، إن بعض مآتمها تأسس على أيدي النساء وظلت المجالس الحسينية فيها تعقد للنساء لفترة من الزمن، ثم تحولت هذه المآتم لاحقا إلى مآتم رجالية وبالعكس. مأتم الحجة الرجالي مثلا في المنامة أصله مأتم نسائي، أسسته المعلمة خديجة علي الطويل المعروفة بالحجة، نسبة إلى عائلتها المنحدرة من الأحساء، وبعد وفاتها انتقلت إدارة المأتم إلى ابن أختها الحاج حسن أحمد الأربش الذي حوله إلى مأتم رجالي. أما السيد ناصر بن سيدعلي بن خلف فلم يكن يتوقع أن المأتم الذي أسسه للرجال في فريق الحمّام بالمنامة، ستتوارثه بناته من بعده ليتحوّل إلى أشهر المآتم النسائية بالعاصمة، فما قصة هذا المأتم؟
من مجلس تجار إلى مجلس رثاء
يعتبر السيدناصر بن سيدعلي بن خلف المعروف بالمقابي من أشهر طواويش المنامة، والطواش هو تاجّر اللؤلؤ الذي يقوم بشراء اللؤلؤ مباشرة من النوخذة بطريقتين، الأولى تتمثل في تحرك الطواش بمركبه الخاص إلى سفن الغوص لعقد صفقات البيع والشراء مع النوخذة في عرض البحر، أما الثانية فتتم في البر عن طريق المبادلة بمواد تموينية. ويعتبر الطواش أكثر الرجال تقديرا لثمن اللؤلؤ، إذ يميّز جودتها ويحدّد مواقع مصايدها عن طريق التحديق بها.
وكان من عادة سيدناصر أن يدعو طواويش البحرين وكبار النواخذة ؛لتناول العشاء في منزله مرتين في الأسبوع، ونظرا إلى تمكنه من نظم الشعر في رثاء الإمام الحسين (ع) كان يقرأ على الجالسين أبياتا من شعره الحسيني، وتكرّرت العادة فقرّر أن يحوّل هذا المجلس إلى مأتم، متخذا من فناء منزله الواسع الذي يتوسطه بئر مقرا لهذا المأتم لكي يتسع لمزيد من الحضور، وكان ذلك قبل 120 سنة. ومنذ ذلك الوقت بدأ السيد في إحياء ذكرى عاشوراء، تسانده زوجته من قرية البلاد القديم الحاجة فاطمة بنت الشيخ حسين المقابي، وكانت امرأة متعلمة، تلقت تعليمها علي يد والدها الشيخ حسين، وعندما قدمت إلى المنامة افتتحت مجلسها كمدرسة لتعليم القرآن لأطفال المنامة.
كما بدأت بعقد مجالس حسينية في المآتم النسائية في المنامة مثل مأتم الخاجة، ومأتم بيت سالمين، ومأتم عبيد بن صلاح، ويرجع إليها الفضل في تخريج الكثير من القارئات الحسينيات في المنامة. وتشير حفيدتها إلى أن المرحومة كانت تقوم بتجهيز المأتم لزوجها والإشراف على جميع مستلزماته، يساعدها في ترتيب وإعداد الأطعمة عبيداتها القادمات من بربرة (مدينة ساحلية في الصومال) أبرزهن زعفرانة وسعيدة، إذ دأبتا على إعداد شاي الزعفران، وشاي القرفة، والشاي بالليمون الأسود لمرتادي المأتم، وهكذا تحوّل مجلس التجار إلى مأتم.
إدارة المأتم من النساء
لم تنجب الحاجة فاطمة للسيد ناصر سوى ثلاث بنات هنّ خاتون، ونجيبة، وهاشمية، ولذا كان يكنّى بأبي خاتون، وكانت أمنيته الوحيدة أن تتغير كنيته هذه، وعلى رغم زيجاته المتعددة إلاّ أن القدر شاء أن يعرف بيته حتى يومنا الحالي ببيت بنات سيدناصر.
وتلمس السيد في ابنته الكبرى حسا بكتابة الشعر والقدرة على عقد المجالس الحسينية، فلذلك اتفق مع زوجته أن يعقد مجلسا لإعادة العشرة لفتيات الحي بقيادة ابنته خاتون، ومنذ ذلك الوقت وخاتون تقيم عشرة ثانية بعد عشرة محرم، وكان ذلك بمثابة فترة تدريبية لها، وبعد وفاة والدها تحوّل مأتم السيدناصر إلى مأتم نسائي تديره السيدة خاتون مع أختها هاشمية. وكانت خاتون تعكف على تأليف المراثي في أهل البيت (ع)، إذ أنجزت ما يقارب ستين كتابا في هذا الجانب.
وتولت خاتون شئون المأتم ما يقارب الخمسين عاما، واتخذت فيه نظاما خاصا في عقد المجالس الحسينية، إذ تعقد مرتين صباحا ومساء من أول يوم من المحرم حتى الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مع إحياء ذكرى وفاة ومولد الرسول الأعظم (ص) والأئمة الاثني عشر، كما يعقد مجلس صباح الأحد والثلثاء والجمعة طيلة أيام السنة. وقد أشركت خاتون في قراءة المجالس الحسينية داخل المأتم نساء المنامة من مختلف العوائل أبرزهم: الجشي، والتوبلاني، والعلوي، والحوري، والسماهيجي. وبعد وفاتها انتقلت إدارة المأتم إلى أختها هاشمية وبناتها (بنات السيدعبدالرسول الزيرة)، اللائي حافظن على طريقة ونظام خالتهن في عقد المجالس الذي يبدأ في العادة بقراءة الحديث من كتاب يدعى الفخري، ثم القصيد، تليها الرواية، ويتخلّلها المرد، ثم النعي، ثم يقمن النساء للدور، ويختم المجلس بالدعاء والصلاة على النبي محمد (ص)، وقراءة الفاتحة. ولم يجر أي تجديد على المجلس الحسيني، إذ إن القائمات على المأتم يفضلن الاستمرار على الطريقة القديمة، كما أنهن يحرصن على القراءة من الكتب التي خطتها السيدة خاتون بيديها، ويتبعن نظاما في توزيع الأدوار في القراءة الحسينية على النساء القارئات طبقا للسن والمكانة الاجتماعية.
الراية... واستقبال نساء المحرق
بعض المآتم النسائية في البحرين تقرأ رواية عقد الإمام الحسين (ع) الرايات لجيشه في يوم الخامس من محرم، وقد جرى مأتم السيدناصر على هذه العادة، لكنه يختلف في أن لديه راية خاصة لهذا الموقف، إذ توجهت السيدة خاتون في العام 1965 (1387هـ) إلى العراق لجلب راية خضراء، وهي عبارة عن قطعة طويلة من الحديد ملفوفة بقماش أخضر لتنصبها في المأتم. ويتم لف الرايات (مجموعة من الأقمشة الملونة) على الراية يوم الرابع من محرم وتحرص النساء على الحضور إلى المأتم في هذا اليوم للمشاركة في لفّ الراية استعدادا لليوم الخامس، وبعده تسلم هذه الراية وهي ملفوفة بمجموعة من الرايات إلى إدارة مأتم الحاج عباس بالمنامة، لكي يتقدّم بها في موكبه في عزاء «ذي الجناح» (اسم خيل الإمام الحسين) صباح اليوم العاشر في جو حزين مرددا:
ذي الجناح أقبل من الميدان خالي واويلاه وتعاد الراية إلى مأتم سيد ناصر وتعلق في وسطه، استعدادا إلى يوم الأربعين (العشرين من صفر)، إذ تستقبل نساء المأتم في صباح ذلك اليوم حافلة تحمل نساء من المحرق قادمات للمشاركة في إحياء هذه الذكرى، إذ يشاركن في القراءة في المجلس الصباحي، ثم يتناولن طعام الغذاء، وبعد الظهيرة يعقد مجلس آخر بعده تغادر نساء المحرق المنامة مع تجديد الوعد باللقاء في السنة المقبلة.
العدد 1606 - الأحد 28 يناير 2007م الموافق 09 محرم 1428هـ