العدد 1605 - السبت 27 يناير 2007م الموافق 08 محرم 1428هـ

صورة لبنان في الأيام الثلاثة الماضية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الحوادث الدموية والمواجهات المدنية والاصطدامات المباشرة التي حصلت أيام الثلثاء والأربعاء والخميس الماضية في مختلف أنحاء لبنان وداخل أحياء المدن في طرابلس وبيروت وصيدا تعتبر عينة صغيرة عن كارثة كبرى ستقع في حال لم تتدارك القوى المعنية بالأمر وتباشر في صوغ حلول أو ابتكار آليات سياسية لإنقاذ البلد الصغير من الانهيار. ما حصل يعتبر رسالة واضحة تلخص عناوين الصورة المحتملة للانفجار. ولا يكفي في هذا الإطار توجيه الاتهامات وتنصل كل طرف من المسئولية وتحميلها للآخر. كذلك لا فائدة ترجى من التهرب والتعامل مع الوقائع وكأنها مجرد حوادث عفوية نفذتها فئات جاهلة أو طوابير خامسة. ما حصل أكبر بكثير وهو يدل على وجود احتقان أهلي يتغذى من استقطابات طائفية ومذهبية ومناطقية ليست بعيدة عن تلك الفضاءات العربية والإقليمية.

معالجة الحوادث السلبية الأخيرة تتطلب قراءة سياسية للحال اللبنانية والقوانين الموضوعية التي تتحكم بالعقليات والذهنيات والمشاعر. فالمسألة ليست بوليسية يمكن ضبطها بالملاحقة والمطاردة والانتشار الأمني واعتقال عناصر مشاغبة من هذا الفريق أو ذاك أو اقتحام معقل لهذه المجموعة أو مصادرة أسلحة لتلك.

هذا جزء من الموضوع. والجزء البوليسي/ الأمني يمكن التحكم به لفترة معينة، وتستطيع القوى السياسية الفاعلة أو الهيئات صاحبة النفوذ على الأرض أن تعالجه بالدعوة إلى الحكمة واليقظة والانتباه وعدم الانجرار نحو فتنة تستفيد منها حكومة إيهود أولمرت وتعطيها الذريعة التي تبحث عنها للإعلان عن الانتصار على لبنان.

الجزء الخطر والأصعب في الموضوع هو ذاك الذي يتصل بطبيعة الاجتماع اللبناني وتشرذم السياسات إلى إطارات طائفية ومذهبية ومناطقية. وهذا الجزء لا تستطيع القوى التنظيمية على ضبطه والسيطرة عليه في حال تدحرج الصراع ميدانيا. فالموضوع هنا سيأخذ أبعاده الخطيرة وسيتجه بحكم الواقع إلى التفكيك وفق تلك الحدود الفاصلة أو الرابطة أو المتداخلة في الأحياء والمدن والقرى.

هذه المناطق تعيش الآن حالات توتر وقلق وخوف ومخاوف وهواجس وتشكيك. والثقة حين تصل إلى درجة الانعدام تفتح الباب لارتسام خطوط التماس الأهلي بين الجماعات الطائفية والمذهبية والمناطقية. والصور التي تناقلتها وكالات الأنباء ومحطات التلفزة والفضائيات من تلك المشاهد الحية في ميادين بيروت وطرابلس وصيدا تكشف بوضوح عن ذاك الانقسام الأهلي الذي بدأ يسيطر على الساحات. ولا يكفي أن تستضيف محطة تلفزيونية هذا الوجيه أو تلك العمامة من الطرف الآخر لتأكيد وطنية التحرك. ولا يكفي أيضا أن تنقل محطة أخرى وقائع مؤتمر صحافي عقده هذا الوجيه أو تلك العمامة من الطرف الآخر لنفي الطابع الطائفي/ المذهبي ولتأكيد الإشارة إلى أن الانقسام يدور في إطار السياسة.

هذا السلوك الإعلامي هو أقرب إلى الاحتيال أو محاولة تحايل على الواقع لكسب الوقت وتجاوز الإشكالات ثم العودة للاستمرار في نهج لا وظيفة له سوى المساعدة على التفكك ودفع البلاد إلى مزيد من الانهيار وثم الانفجار. الصور التي تناقلتها وكالات الأنباء عن حوادث لبنان في الأيام الثلاثة الماضية طائفية في جوهرها ومذهبية في انقسامها ولا يمكن إنكار خطورتها في حال ترك الوضع على حاله المأزوم. فأسماء الشوارع معروفة، والدلالات المذهبية للأحياء واضحة، والانقسامات التي شهدتها مناطق العاصمة تشير إلى اللون الطائفي للسكان. وعدا ذلك يصبح من التفصيلات. فالواقع أصدق أنباء من لقاءات وتصريحات وبيانات محطات التلفزة، فهو يتحدث بصدق عن تعقيدات واقع لبنان الذي تتحكم الطائفية والمذهبية في قوانينه السياسية. والهروب من الواقع يعني محاولة تهرب من المسئولية وادعاء البراءة في وقت تسيل الدماء في الشوارع من كل الطوائف والمذاهب وأبناء الأحياء أو من وجد مصادفة في هذه المنطقة أو تلك.

خطورة تكرار المشهد

المسألة خطيرة جدا ويجب التعامل معها بعقلية تترفع على الكيدية؛ لأن تكرار المشهد سيدفع بالبلاد إلى الأسوأ، وإعادة تكراره سيدفع المشهد إلى التحول إلى مسرح لبناني عام يتشارك فيه الجميع مواقع الاشتباك الأهلي. والنتيجة في هذا السياق ستكون كارثية؛ لان العبرة ليست في القوة العسكرية وإنما في الغايات السياسية. فما الفائدة إذا انتصر هذا الفريق على ذاك مادام الخاسر كل الفرقاء. والانتصار العسكري في هذا المعنى لا قيمة له إذا غابت الغاية السياسية عن الموضوع وبرزت الطائفية والمذهبية والمناطقية كإطار للغلبة أو الهزيمة.

المشكلة إذا تتعدى كل هذه التنظيرات والتأويلات والتفسيرات، لأنها أساسا ستؤدي إلى قلب المعادلة السياسية وتحويلها خطوط تماس طائفية ومذهبية ستدفع الناس إلى الانتقال من مكان إلى آخر والتمركز في مناطق متجانسة أهليا.

هذا الاحتمال ليس مفترضا ولا يقال للتهويل أو التخويف. وما حصل في بيروت ولبنان خلال الأيام الثلاثة الماضية يقدم مادة كافية للتعامل مع الكارثة بعقلانية تبدو أنها غائبة عن الوعي السياسي الذي يتحكم بالمشاعر والذهنيات. المشاعر والأحاسيس والاندفاعات حين تخرج عن إطارها الخاص وتنجرف إلى الشارع العام ، تتحول كيماويا من السياسة العقلانية إلى التشنجات الطائفية والتوترات المذهبية وتصبح دعوات الواقعية مجرد بالونات هوائية تنفجر هباء لحظة اصطدامها بالأرض. وهذه الآليات التي تحرك وتنتج وتصوغ وعي الجماعات الأهلية تعتبر في لبنان ذاك الأساس المادي الذي تقف فوقه الأحزاب والتنظيمات والتيارات السياسية. فكل الجمعيات تدعي أنها ليست مذهبية وضد الطائفية وتطالب بالعدالة والمساواة، ولكن الواقع الميداني للجمعيات يختلف نسبيا أو كليا عن تلك الأفكار والشعارات. فالمبادئ الحزبية العامة تصبح مجرد كلمات مكتوبة على ورق حين تهتز الأعصاب وتتوتر العلاقات الأهلية. وهذا النوع من الاستقطاب الذي ظهرت منه عينات صغيرة في أزقة بيروت وطرابلس وصيدا والكثير من المناطق يعطي فكرة تلخص تلك العناوين التي سيندفع إليها لبنان في حال لم تسرع القوى المعنية إلى تدارك الخطر واحتواء تلك الاستنفارات العامة في الشوارع والأحياء.

لبنان وضعه خطير جدا وهو بات على شفير الانهيار الأهلي بسبب طبيعة نظامه السياسي القائم على المحاصصة. وما يزيد هذا البلد تشنجا واضطرابا هو دخول المنطقة العربية ومحيطه الإقليمي في دائرة التوتر نظرا إلى تلك الاستحقاقات التي تنتظر الحلول والتفاهمات أو الحروب والمواجهات. فالملفات الدولية والإقليمية والعربية البعيدة عن لبنان أو المتشابكة معه تلعب من قريب دور المحرض على الفتنة. والفتنة في لبنان ليست سياسية ولن تكون حتى لو بدأت هكذا أو اتخذت هذا الطابع... فهي بطبيعة الحال ستتلون بالواقع وما يفرزه من انقسامات أهلية.

ما حصل من حوادث في الأيام الثلاثة الماضية مجرد عينة من الواقع اللبناني، وربما محاولة جس نبض لاختبار فعالية السياسة ومدى تجاوب الشارع مع هذا التيار أو ذاك الحزب أو تلك الجماعة. وإذا كان ما جرى خطوة اختبارية لسيناريو آخر وكبير فمعنى ذلك أن الطرف الذي يخطط للفتنة أصاب النجاح في إثارة تلك العينة من القلاقل الأهلية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1605 - السبت 27 يناير 2007م الموافق 08 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً