لا يطول بك العمر كثيرا كي تكتشف الفارق بين بشر ولدوا فقط ليختبروا أعضاءهم وأجهزة تنفسهم، وبشر ولدوا كي يعطوا الحياةَ معنى كبيرا. معنى يؤدي بهم إلى التصدّي للقضايا الكبرى التي تؤكد محورية ومركزية الإنسان في ذلك المعنى وذلك الوجود. ثمة بشر لا يتحسسون أهميتهم وعمق معناهم ما لم يتصدوا للقضايا الكبرى والمكلّفة. القضايا التي قد تودي بهم إلى عذابات ربما لا يحتملها الجنس البشري. وإن احتملها تكون قد أخذت منه كل مأخذ. وثمة بشر يوهمون أنفسهم بالأحقية في الاستحواذ على ذلك المعنى حتى إن ساهمت حيواتهم في تعميق حال من الهوامش، واستبعاد وإقصاء مناطق المركز التي من المفترض أن يكون الإنسان في الصميم والعمق منها. برحيل سماحة العلامة الكبير الشيخ المجاهد عبدالأمير الجمري، تكون قد طُويتْ واحدةٌ من أنصع الصفحات في تاريخ البحرين - حديثِه وقديمِه - حديثه؛ لأن المرحلة التي اشتغل فيها الراحل الكبير كانت ممعنة في ضخ مزيد من التعقيدات في أوردتها، وممعنة في التفنن في سد الأفق وحجبه، وكان لزاما في هكذا محيط ومكان وزمن محتقن أن يصار إلى منهج واجتراح رؤية تستطيع أن تفتح كوّة في تلك الجُدُر العملاقة التي عملت عملها على تحويل كثير من البشر إلى مجرد أشياء - أو هكذا توهّمَ حُرّاس ونواطيرُ تلك الجُدُر - وقديمه؛ لأن حجم القبضة التي أمسكت خناق حركات التحرر كانت كفيلة - على أقل تقدير - بالحد من فتوّتها وانطلاقها وسعة أحلامها وامتداد تطلعاتها.
راهنا، تظل نماذج المجالدة والجهاد والنضال محتلة مساحات كبيرة من ذاكرة الأفراد والمكان، عدا ذاكرةَ الزمن، إلا أن المحصّلات النهائية والحاسمة لتلك المجالدة والجهاد والنضال نادرا ما تأتي باليسير من النتائج قبالةَ قبضات أمنية عسكرتارية متعددة ومتلونة وقادرة على الامتداد في تجربة المجالدة والمواجهة التي استنّها العلامة الراحل ضمن مبدأ المقاومة السلمية التي تبنّاها وتصدى لها. نكاد نقف على تجربة شبه يتيمة لم تعرفها دول المنطقة والحركات والأحزاب التي دخلت في مواجهات مع الأنظمة وخصوصا في مرحلة ما بعد رحيل الانتداب البريطاني عن دول المنطقة، حيث كانت الحركات اليسارية التي مثّلت - وقتها - العنوان العريض لمواجهة بعض الأنظمة خارج سياق المقاومة السلمية وعناوينها سواءٌ أكانت على مستوى الخطاب أم على مستوى ما بعد ذلك الخطاب. وعلى رغم عقود ثلاثة أو تزيد، فإن العنف على مستوى الخطاب والممارسة لم يؤتِ ثماره إلا بعد مراجعة شاملة ربما مست الممارسة، ولكنها ظلت متمسكة بعنفها على مستوى الخطاب، والعودة إلى الأدبيات تضيء جوانبَ عريضةَ مما تذهب إليه هذه الرؤية. لم يؤمن سماحة الراحل الكبير - وضمن قراءته طبيعة المرحلة واشتراطاتها - بالعمل السري، مدركا تمام الإدراك طبيعة التغيرات التي انتابت العالم ومسّته، ولم تجئ العريضة الأولى التي تصدى لها ولاقت استجابة كبيرة من أطياف ورموز متعددة في المجتمع البحريني إلا تأكيد لرياديته وتوجهه بكل مداركه نحو المقاومة السلمية التي كان يؤمن تمام الإيمان بمحصّلاتها ونتائجها بعيدة المدى. وعلى رغم الإرهاصات والدلائل التي تشير إلى نتائج سيدفع ضريبتها جنبا إلى جنب مع المؤازرين له حتى المتعاطفين معه - وذلك ما حدث - فإنه أعقبها بعريضة ثانية كان لها وقع ومحصلات ونتائج دفعت بالبلاد إلى نفق حرصت السلطة وقتها أن يكون معتما ولا ضوء في نهايته بحسب تقديرها الذي توصلت إليه في ظل انفعال أمني واستخباراتي قاد البلاد وقتها إلى محرقة كان لها أول من دون أن يجزم أحد من أطراف السلطة أن لها آخرَ.
قبل أيام من احتضار أبي في نهاية العام 1974 طرق الباب الخشبي. لم تكن القرية وقتها عامرة بالعمائم. كان هو صاحب العمامة الوحيدة. بوجهه السمح وابتسامته التي تكاد تكون جزءا من بياض عمامته سألني إذا ما كان والدي في الدار. لم أضيّع الوقت أذنت له بالدخول لعلمي أنه لوحده مشغول بسعاله الدهري. أخذ مكانه إلى جانبه بعد أن أفاض عليه بوافر الأدعية. في زاوية من الغرفة العطنة أخذت مكاني متأملا العمامة. متأملا أبوّة كم كنت أتمناها أمام قسوة وصلف لا نهائي منه. هي المرة الأولى التي أتمنى فيها استبدال أبي. الأطفال الذين يصلون إلى مرحلة الإحساس بضرورة استبدال آبائهم يعانون فائضا من القسوة والخوف والرعب بحيث تستفزهم الصور والمواقف النقيضة.
كنت ملازما لصمت هو صورة نقيضة لمنزل طالما ظل مليئا بالعنف والقسوة والصراخ، لم يفوّت سماحته وقتها فرصة تخريب تلك الصورة، سؤالا عما أدرس؟ وإلى أي مدرسة انتسب؟ وما الذي أتمنى أن أصل إليه؟ أسئلة في الصميم من الغرابة؛ لأنها خارج سياق العلاقة؛ وخارج سياق السؤال عن الصحة والنفس والحاجة. أسئلة لم تكن متبادلة على الإطلاق داخل البيت الواحد. أسئلة تضعك أمام رجل مؤهل للتصدي لأسئلة أكبر وأعمق تطول الجماعة والأمة بل وتتجاوزهما إلى المحيط الأكبر في بعده الإنساني.
حرائق الحويجية
لم تكن القرية (بني جمرة) في المركز، مثلها مثل جميع القرى في البحرين. كانت في اللب من الهامش. وحين يفتعل أحدهم حريقا يزيد من عمق وتأكيد ذلك الهامش؛ لأن سيارات الإطفاء تكون مشغولة بالمباني متعددة الطوابق والمزارع المسوّرة بأناقة مستفزة. «الحويجية»: مُزيرعة تعهدها سماحته بالمألوف من احتياجات البيت اليومي. لم تكن مستفزة بمساحتها وسورها المتهالك المكون من سعف النخيل. بعد تكرار الحريق أضيف إليها سور من «السلك». حرائق أشعلها المختلفون معه، وكان وقتها في بداية التحاقه بسلك القضاء. الجهات نفسها لم تخفِ في غباء بيّن نشوتها وتفاخرها بتكرار الفعل. لم يك صدره ضيّقا حرجا. كان يكتفي بالاحتساب: (حسبي الله ونعم الوكيل). فيما نجد - وقتها - في هكذا احتساب دعوة مفتوحة لهم لتكرار المحاولة، وخصوصا مع تكررها. لم نك نعي جيدا إلى أين يذهب هذا النفَسُ الطويل. لم نك نعي أن حرائقَ أكبرَ وأشملَ سيقدّر لها الوطن أن يشهدها بفعل ذهاب السلطة وقتها نحو الدرجة القصوى من التعنت والإصرار على الخيار الأمني، ولم نك نعي أنه بعد عقود من تلك الحرائق المفتعلة في البيت الواحد ومن ذوي القربى، سيقدّر له مع آخرين أن يتصدى لحرائق كان من الممكن أن تأكل بلهبها الأخضر واليابس.
الطريق إلى المحكمة
يذكر الأخ والصديق عبدالله الكَيس أياما كنا نتبادل فيها قيادة سيارة سماحته لالتزامه عددا من المجالس والفعاليات والصلوات الأسبوعية. سماهيج، القدم إضافة إلى المحكمة. صادفتنا أيام أمام مقر بيته القديم المجاور لمنزل شقيقه محمد بن ناصر، والمواجه لبيت عمه (والد زوجته) المغفور له بإذن الله تعالى خطيب المنبر الحسيني الملا يوسف بن الملا عطية بن علي الجمري، بإطارات سيارته «الفولفو» وقد عبث بها؛ ما يستغرق وقتا لإعادة الأمور إلى نصابها المؤقت حتى صباح اليوم التالي. كان يبدي انفعالا على الحال التي وصل إليها المختلفون معه، ممزوجا بالشفقة عليهم. في الطريق لا يتيح لأي منا الخوض في أي حديث؛ لأنه وقتها يكون مشغولا بالذكر طوال الطريق، سواءٌ أكان أحدنا هو الذي يقود السيارة، أم كان هو الذي يتولى القيادة. ما لفت نظري في أول يوم أشهد حضوره في المحكمة - وكان زميله في المحكمة نفسها العلامة الراحل الشيخ محمد صالح العريبي - أن عسكريا يؤدي التحية المعهودة لرجل معمّم؛ لأنه استقر في وعينا أن التحية المذكورة وخصوصا عند البوابات لا تتم إلا لذوي النياشين والأوسمة والرتب العسكرية ومن هو في تصنيفهم، ولكنها المرة الأولى التي أرى فيها عسكريا يؤدي التحية لمعمّم!
العدد 1604 - الجمعة 26 يناير 2007م الموافق 07 محرم 1428هـ