قبيل الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2006 كانت البحرين تمشي لمنزلقات المهلكة في مسرح سياسي طائفي بغيض. فجأة، ألقى الشيخ عبدالأمير الجمري بأنفاسه الأخيرة في الفضاء، تلقت انفاسه رئات الناس. وقاسمتهم فيها «البحرين» كطفلة صغيرة. الناس تذكروا الحياة وتزودوا بالصبر. أما الطفلة الصغيرة فقد أنشدت جوقتها... تقول: «... فأنقذكم الله بأبي... ».
لم تكن وفاة سماحة العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري اعتيادية في توقيتها بالنسبة إلى الشارع السياسي في البحرين. حساسية التوقيت هذه أعطت وفاة الشيخ دلالات وإشارات دقيقة. أما الاحتشاد الشعبي الكبير في وداعه فقد بعث رسائل عدة بات من المهم أن يعي الجميع دلالاتها ومضامينها.
لابد أن يكون المرور من مساحة الفقد بعد أربعين يوما مرورا متأنيا في قراءة نضالات الرجل ودوره في الحركة المطلبية وتضحياته الجسام التي قدمها في مسيرته الوطنية من جهة، ومتأنيا أيضا في قراءة واستخلاص تأثيرات هذه الشخصية الفريدة من نوعها على الوطن، والتي مازلنا نعيش حوادثها.
لقد مثلت الحركة المطلبية في التسعينات من القرن الماضي منعطفا مهما في تاريخ البحرين الحديث، وكان لنضالات الشيخ الجمري أن تكون مسرح هذه الحركة ومركزها الأهم باعتراف الاطراف التي عاصرت تلك المرحلة وكانت فاعلة فيها. وكان للشيخ أيضا أن يلعب دورا تاريخيا في صوغ مرحلة جديدة من الحياة السياسية هنا في البحرين.
الأبعد من ذلك، أن الشيخ الجمري كان يمثل حالا من الاتزان السياسي للمعارضة آنذاك. وكان خطابه الوطني المكتمل العناصر قادرا على توجيه المعارضة في طريقها الصحيح من دون أن تنزاح، أو أن يتعرض برنامجها للتسميم أو الاغتيال الطائفي.
لابد من وقفة تقدير كبرى للشيخ الجمري في ذكرى رحيله. هذا الوقوف هو لمقاومته الكبرى لأية محاولات تشويه كان البعض يحاول ترويجها عن المعارضة ورموزها السياسية داخل البحرين وخارجها.
الفترة التي ابتعد فيها الشيخ الجمري عن ممارسة دوره السياسي بسبب مرضه أفرزت منعطفات عدة من التأزيم السياسي المفتعل. ولاشك في أن قرار مقاطعة التحالف الرباعي لجمعيات المعارضة الانتخابات النيابية في العام 2002 كان قد أعطى هذه الأطراف الفرصة الكافية وعلى مدى أربع سنوات مضت لصوغ مرحلة جديدة للحركة السياسية في البلاد. هذه المرحلة الجديدة كانت المعارضة ورموزها ومؤسساتها تحديدا هي المستهدف الرئيسي فيها. وجهة النظر هذه تعتبر متفائلة جدا مقارنة بآراء أخرى تصب فيما هو أكثر من ذلك، وأصعب.
إذا، كان الخطاب السياسي الوطني التوجه هو أبرز ما تميز به الراحل الكبير فترات تصدره دفة المعارضة السياسية في البحرين إبان الحركة المطلبية في التسعينات.
لقد كان الخطاب السياسي للشيخ الجمري قادرا على أن يكون انسيابيا في اوساط الجماهير في البحرين ومتمركزا بتأقلم فريد مع أبجديات الحراك السياسي في طابعه المدني، وفي السياق ذاته كان الجمري ممسكا على مستوى التأسيس الخطابي والاجتماعي بخيوط أسلمة خطابه وجمهوره وتوجيهه وفق البعد الأيديولوجي الذي خرج منه الشيخ وصب طاقاته فيه.
وفاة الشيخ... الحفاظ على البحرين مرة أخرى
كانت وفاة الشيخ الجمري في الثامن عشر من ديسمبر 2006 عاملا في حفظ توازن جسم المعارضة، والذي كان قاب قوسين أو ادنى من الاهتزاز. لقد اعطى الشيخ الجمري في يوم وفاته مساهمته الأخيرة في عملية الإصلاح السياسي في البحرين.
الاحتشاد الجماهيري في ليلة مواراة سماحة الشيخ الجمري الثرى كان الأكبر في تاريخ البحرين، وكان ورقة الإنقاذ التي كانت المعارضة في أوج حاجتها لها. كانت وفاة الشيخ كذلك ورقة إنقاذ أخرى لبعض الأطراف السياسية في البلاد، والتي كانت عبر مخططاتها تسعى فيما تسعى إلى نقل الحراك السياسي من الملعب السياسي المتضمن احتمالات الربح والخسارة إلى الملعب الطائفي.
هذه القوى كانت ومازالت تعتقد بأن ملعب «الطائفية» هو ملعبها المثالي للربح، وبتجاوز أنها مخطئة في خيارها كان راحلنا الكبير المنقذ لهذه الجماعات من أن تبعث البحرين إلى ملعب الطائفية حيث لا رابح هناك فالجميع خاسرون. ماخلا المراهنين على مصادرة الآخر، واغتياله من الوطن جسدا وروحا.
عاد الجمري نفسه صاحب الخطابات الوطنية الكبرى في التسعينات ليعيد العمل السياسي في البحرين لسياقاته الطبيعية. عاد في وفاته ليقدم للبحرين فرصة من فرص تجاوز المناطق الفارغة بين الأطراف السياسية ليجعل فرص الالتقاء الوطني قائمة وممكنة.
الممكن الذي آمن به الجمري في التسعينات بعثه من جديد لنا في يوم وفاته. أما المؤمل منا حيال ذلك فهو استنهاض هذا الحضور الكريم لهذه الشخصية والرجوع لوحيها كلما أزفت بنا مستجدات السياسة. الممكن الذي آمن به الجمري هو الممكن الذي آمن به عبدالرحمن الباكر إبان تأسيس هيئة الاتحاد الوطني، اليوم ونحن نحيي ذكرى الشيخ الجمري فإننا نبدأ بإعلان هذا الراحل الكبير كأحد الأسماء الوطنية الكبرى في تاريخ البحرين.
لابد أن يكون إحياؤنا لأربعين سماحة الشيخ الجمري إيذانا بإشهار ذكرى هذه الشخصية كقاسم مشترك جديد للبحرين. ننتظر جميعا من مؤسسات المجتمع المدني كافة أن تكون فاعلة في توظيف ذكرى وفاة الشيخ في العام المقبل كمناسبة وطنية سنوية تكون رافدا في تعزيز الإخاء الوطني بين أبناء البحرين قاطبة.
ترتكز دعوتنا إلى اعتبار ذكرى وفاة سماحة الشيخ الجمري يوما من أيام البحرين الوطنية على الكثير من المؤشرات السلبية في حراكنا السياسي. وليست الحوادث التي عصفت بالبحرين نهاية السنة الماضية إلا دلالات من الشؤم الذي يلف بنا.
طبيعة هذه المتغيرات الطارئة تقتضي أن تكون ذكرى الشيخ الجمري فينا الذكرى التي نستشف منها فضاءات الوحدة الوطنية، والإصرار على المسير قدما في مسيرة الإصلاح السياسي الذي مازلنا نأمل منه لأبناء البحرين الكثير من الإنجازات.
لابد من أن تكون المرحلة المقبلة مرحلة استكمال لمشروع لمّا يكتمل. هذا النقص الذي ساهم الوضع الإقليمي (الطائفي) فيه كاد أن يكون المحرك الرئيسي لمجمل مسرحنا السياسي... والذي أنقذنا الشيخ عبدالامير الجمري من الوقوع فيه.
لماذا كان الشيخ الجمري يمثل سدا منيعا في شخصيته أمام أي طرف يسعى إلى طأفنة مسرحنا السياسي؟ هذا ما يتطلب منا قراءة ذكراه ومراحل حياته ونشاطه السياسي باهتمام بالغ، وألا نمر عليها مرور الكرام.
نمر من ذكرى أربعين الشيخ الجمري نستذكر تلك الحشود التي قاومت برودة الطقس والمسافات الطويلة. ونستذكر مساحات النضال وأيام الكرب التي مر بها الشيخ وأبناء البحرين فنحمل منه انفاسه الكريمة قوتا على التصبر. بصير كان عبدالأمير الجمري في حياته، وكان كذلك في الموت.
العدد 1604 - الجمعة 26 يناير 2007م الموافق 07 محرم 1428هـ