العدد 1602 - الأربعاء 24 يناير 2007م الموافق 05 محرم 1428هـ

لبنان قبل «باريس 3» وبعده

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يفتتح اليوم الرئيس الفرنسي جاك شيراك مؤتمر «باريس 3» بحضور 32 دولة وعشر مؤسسات نقدية كبرى في العالم. فكرة المؤتمر تبلورت بعد العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان في الصيف الماضي وهدفها كان تشجيع الدول والمؤسسات وعواصم القرار على عدم التخلي عن هذا البلد ومساعدته في مشروع إعادة الإعمار وتعزيز الاستثمار لمنع اقتصاده من الانهيار.

بدأت الفكرة صغيرة ثم تضخمت وتحولت الى سياسة دولية تدعمها القوى العظمى. وهذا ما أدى الى تجاوب الكثير من الدول معها حتى تلك التي لم تكن موافقة أو مؤيدة أو متحمسة للفكرة. المسألة لم تكن سهلة في البداية لأنه كان من الصعب إقناع المصارف الدولية ومؤسسات النقد بضرورة مساعدة دولة تعاني حالات من التمزق الأهلي ومرت بتجربة دمار قاسية خربت اقتصادها وعمرانها. ولأن الفكرة لم تكن جاهزة مرت في تطورات ومحطات وتشنجات دولية وإقليمية حاولت تعطيلها او منعها من النمو والتحول الى مشروع ضخم تتنافس القوى على تمويله ودعمه.

بداية أبدت «إسرائيل» انزعاجها من الموضوع بذريعة ان الفكرة تعزز الاهتمام بلبنان وتسرق الأضواء من تل أبيب. ولكن الذريعة الحقيقية كانت ان «إسرائيل» لا تريد للفكرة ان ترى النور حتى لا تنكشف أمام العالم الاضرار التي ألحقتها آلة الحرب بهذا البلد. وهذا في حال انكشافه سيؤدي الى عزلة تل ابيب الدولية أو على الأقل تسابق الدول على دعم لبنان وإهمال «إسرائيل» من المساعدات والتمويل. وأشار الى هذه المسألة نائب رئيس الوزراء شمعون بيريز أكثر من مرة خلال جولته على الولايات الأميركية حين ذكر أن دول العالم تقف الى جانب لبنان ويريد من الجاليات والمؤسسات والمنظمات المالية دعم «إسرائيل» لتعويضها خسائر الحرب.

إلى حكومة ايهود اولمرت اعترضت إدارة جورج بوش على الفكرة منذ ان طرحت في بداية الأمر. فواشنطن وجدت في الدعوة ضربة استباقية تعطل عليها سياسة الضغط على لبنان لتطويعه وتركيعه من خلال جرجرته الى انهيار داخلي يقوض قيمة النقد الوطني ويمنع على البلد إعادة إعمار ما دمرته الحرب. لذلك أبدت واشنطن امتعاضها من الفكرة لأنها كانت تتخوف من احتمال نجاحها. وفي هذه الحال ستتحول الى مشروع يلغي بعض تلك النتائج السلبية التي اسفر عنها العدوان. فالحرب التي اعلنتها حكومة اولمرت على لبنان بدعم من إدارة واشنطن استهدفت ثلاث نقاط: الأولى كسر المقاومة. والثانية كسر الدولة وإطلاق شرارة حرب أهلية. والثالثة كسر المشروع العربي من خلال إخراج لبنان من المعادلة الإقليمية وجرجرته الى هدنة يكون فيها البلد محطما الى دويلات محلية متناحرة.

حين توقف العدوان اكتشفت تل ابيب أنها فشلت في كسر المقاومة ولكنها نجحت في تحطيم البنى التحتية للدولة والبنية السكانية في الجنوب وسددت ضربة موجعة للمشروع العربي في لبنان. وهذا ما جعل واشنطن تعترض بداية على فكرة «باريس 3». فالفكرة تعني انها محاولة لترميم المشروع العربي وتعويمه مجددا من خلال الاستثمار والتمويل والمساعدة في إعادة الأعمار. كذلك تعني إعادة انعاش مشروع الدولة وتأسيسه مجددا من تحت الحطام. وفي حال حصل هذا الأمر يكون العدوان الأميركي - الإسرائيلي فشل في تحقيق اهدافه الثلاثة.

لهذه الاسباب ترددت أميركا بداية في دعم الفكرة وحاولت مرارا إفشالها حتى لا ينجح لبنان في إزالة آثار العدوان وبسرعة لا تخدم في النهاية الغاية التي أرادت واشنطن تمريرها من خلال الموافقة على تغطية الاجتياح الفضائي للبلد وتقطيع أوصاله وبعثرته الى اجزاء محطمة.

سياسة متناقضة

إلا ان الولايات المتحدة اضطرت بعد مناورات سياسية ودبلوماسية إلى تأييد الفكرة بحذر. والسبب الذي دفع واشنطن الى تعديل موقفها يعود لمجموعة عوامل أهمها الاجماع العربي على دعم لبنان ورفض دول الجامعة العربية اسلوب التحطيم والتهشيم الذي اعتمدته آلة الحرب الإسرائيلية ضد البلد. وأسهمت هذه الهبة العربية الرسمية والشعبية في احراج واشنطن وعطلت عليها الاستمرار في سياسة التسويف والمماطلة والتهرب من المسئولية وعدم المساهمة في التمويل والدعم.

إلى الموقف العربي الجامع والمشترك جاء الموقف الأوروبي الذي أبدى حماسة للفكرة الفرنسية التي قام الرئيس شيراك بتسويقها أوروبيا ودوليا وتأمين الغطاء المطلوب فرنسيا لإنجاحها. وشكل الموقف الفرنسي المدعوم أوروبيا قوة ضغط إضافية على واشنطن فاضطرت الى دعم «مؤتمر باريس 3» من ضمن حسابات سياسية مختلفة. فواشنطن لجأت الى وضع شروط على الفكرة وأكدت أنها ستسحب التزاماتها في حال دبت الفوضى في لبنان ودخل البلد في حالات من التوتر الأهلي وعدم الاستقرار. فالدعم الأميركي جاء بشروط وعلى خلفية المراهنة على أن هذا البلد انتهى ولن تقوم له قائمة بعد العدوان المدمر.

هذا التأييد المشروط وضع المشرفين على إنجاح الفكرة في موقع حرج لأنه رهن الدعم بالاستقرار السياسي وربط إعادة الإعمار والتمويل والاستثمار بالتوافق اللبناني. وهددت أميركا بسحب مساعداتها في حال لم يتوصل الداخل الى تفاهم يضمن عدم هدر المال الذي تنوي الدول العربية والأوروبية والمؤسسات الدولية تقديمه كهبات أو قروض ميسرة. وأدى هذا الشرط التعجيزي الى إرباك الموقف الفرنسي، وإحراج الدول العربية والأوروبية التي أبدت تضامنها مع لبنان وأظهرت حماسة غير مسبوقة في إنقاذ البلد من الانهيار والتفكك.

الشرط الأميركي السياسي جاء على خلفية امتعاض واشنطن من هذا الاهتمام الأوروبي بلبنان وإهمال «إسرائيل» من تلك الرعاية والانتباه. كذلك جاء ليضع العراقيل أمام عودة الدول العربية الى سياسة ممارسة نفوذها الإيجابي في تأهيل البلد عمرانيا ليكون في موقع يسمح له بالصمود والممانعة.

الولايات المتحدة لم تكن مرتاحة منذ البداية للفكرة وحاولت قدر الامكان تعطيلها من «تحت الطاولة» وخلخلتها لأسباب سياسية تتعلق باستراتيجية تقويض دول المشرق العربي وزعزعة استقرارها من خلال استخدام ما تسميه تكتيك «الفوضى البناءة» ولكنها في حقيقة الأمر فوضى هدامة. كذلك أرادت واشنطن من سياسة تعطيل الفكرة قطع الطريق على فرنسا المدعومة أوروبيا من العودة الى ممارسة دورها الاقليمي من خلال ترميم موقعها انطلاقا من الساحة اللبنانية. وأيضا أرادت واشنطن أن تضع العقبات أمام الدول العربية لتنسف ما تبقى من جسور تربط لبنان بالمحيط العربي والإقليمي حتى يكون البلد في حال تخبط وتمزق ومعزولا لا يستطيع الخروج من مأزقه من دون رعاية أميركية. فإدارة بوش أرادت الانفراد بالضحية وتحويل لبنان الى غنيمة سهلة تستطيع استغلالها والبناء عليها لتمرير خطة مشروع «الشرق الأوسط الجديد».

الموقف العربي الممانع والمساند أحبط الخطة حين تحركت الدول العربية وتنافست في إرسال الدعم والتمويل وإعادة البناء والإعمار. وجاءت فكرة «باريس 3» لتعزز الموقف العربي من خلال تشجيع الدول الأوروبية والمصارف ومؤسسات النقد على تقديم ضمانات وتسهيلات تتكفل بحماية الاقتصاد من الانهيار الشامل.

تحت سقف التفاهم العربي - الأوروبي اضطرت إدارة بوش الى الموافقة على الفكرة بتحفظ وشروط حتى لا تعطي فرنسا ذاك الموقع الخاص في مشروع إعادة البناء. ثم أخذت واشنطن تطور موقفها وتبدي حماسها لإنجاح المؤتمر بعد تلك الجولة الأخيرة التي قامت بها وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس الى المنطقة. فالوزيرة اكتشفت بالملموس مدى ذاك الالتزام العربي بعدم التفريط بهذا البلد الصغير. ولعل هذا الاجماع العربي دفع رايس الى القول إن الحرب على لبنان ساهمت في إنشاء «حركة اصطفاف عربية» يمكن التعامل معها وتطويرها.

بعد جولة رايس العربية الأخيرة تبدل نسبيا الموقف الأميركي المتحفظ والمتردد في دعم «باريس 3» وتحول الى سياسة إيجابية بدليل ان وزيرة الخارجية اعلنت عزمها على حضور المؤتمر وكشفت عن وجود خطة لدى بوش تريد تمويل مشروعات وتغطية نفقات عمرانية بقيمة 700 مليون دولار. ولكنها ربطت هذا الحماس النقدي بموافقة الكونغرس وبضرورة استقرار البلد حتى لا تهدر أموال المساعدات.

لبنان إذا أمام تحديات فعلية. والمؤتمر الذي يفتتحه اليوم الرئيس الفرنسي يشكل نقطة عبور للدولة تسمح لها بالانتقال من حال الضياع والتفكك الى موقع يجدد الثقة بدورها. ولكن هذا البلد يعاني فعلا من خراب عمراني وفوضى أهلية وأزمة نقد كبرى (ديون هائلة الحجم) ما يعني ان نجاح المؤتمر يتوقف على استقراره الداخلي ووجود خطة واضحة المعالم لإعادة بناء قواعده الاقتصادية وفق معايير لم يتعوّد اللبناني عليها في مراحله السابقة. وبسبب هذا القلق الداخلي يرجح ان يخسر لبنان الكثير من الدعم والمساعدات، الأمر الذي سيؤدي الى عدم الاستفادة القصوى من «باريس 3» وبالتالي تحويل المؤتمر من مشروع إنقاذي الى مسكنات تخفف من الأوجاع ولكنها لن تشفي البلد من أمراضه المزمنة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1602 - الأربعاء 24 يناير 2007م الموافق 05 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً