سنة واحدة مرت على وفاة جارنا العزيز سعد سالم المحسني (رحمه الله)، حينما ووري جثمانه الطاهر في صبيحة باردة يوم الاثنين الموافق 23 يناير/ كانون الثاني 2006 بثرى قريته الصغيرة والحميمة على قلبه الزلاق، وقد كان قدرنا الفاجع يومها أن نستيقظ كدأبنا اليومي للتوجه إلى كسب الرزق الحلال قبل أن نصطدم ونصعق بنبأ وفاة جارنا العزيز وأستاذنا حينما كنا ندرس في المرحلة الابتدائية بالمدرسة الكائنة بجوار منزلنا في الزلاق.
«لقد توفي اليوم سعد سالم، هيا لنذهب إلى المقبرة» قالها مرة واحدة كالقذيفة الصلبة التي حطمت جدار اللحظة الخرساء من دون مقدمات وبصوت أجش ونظرات ملؤها الحزن والأسى والدي الغالي أمامي، وأنا حينها كنت أهم لبدء يوم جديد متجها نحو العمل، ولم أكن حينها أعلم أنني، وكعادتي حينما أخرج صباحا من منزلي نحو العاصمة، حيث أعمل، لن أتمكن أبدا من أن ألقي التحية صباحا بعد اليوم على جاري وأستاذي وأستاذ والدي من قبلي، بعدما أصبح في ذمة الله، وبات لزاما من حكم الإيمان التسليم بالقضاء والقدر الإلهي، على رغم مرارة الفجيعة واستعصاء الكبت والقسر لجموع المشاعر العاصفة والمختلطة بشذى أجمل الذكريات التي خشيت أن تنطفئ برحيل موقدها.
ما ميز جنازة سعد هو كونها قد حولت المقبرة السادرة في صمتها البري الطويل وسط طقس بارد وجاف مشوب بالتغريد الصباحي للطيور البرية إلى ما يشبه العرس الوطني المهيب، حينما اكتظت المقبرة بالمشيعين من أهل الزلاق والكثير من مدرسي وطلبة مدرسة الزلاق الابتدائية للبنين الذين لطالما عهدوا أستاذهم واقفا صباح كل يوم دراسي في الطابور يرحب بهم ويقودهم نحو الفصول الدراسية.
وسرعان ما امتلأت المقبرة شيئا فشيئا بوفود وحشود متراكضة ومسرعة أتت من القرى المجاورة، وخصوصا قرية داركليب، كي لا تفوت تشييع الجثمان الطاهر ما أن ألم بها النبأ الأليم لما لهذه الراحل من مكانة كبيرة ومعزة لا تقدر بثمن لدى تلك الصفوف البشرية المتزاحمة في مقبرة الزلاق، والتي لفها الحزن بوشاحه فالتهبت واخضلت أعين بدموع، وابتلعت أجساد مرتعشة غصاتها بمضض.
هذه الجموع الغفيرة سنة وشيعة، بحرينيين وغير بحرينيين جمعها واحتضنها حزن وفقد مديد برحيل سعد، هذا الرجل المتواضع البسيط الذي وعلى رغم أنه لم يرزق بذرية تحمل من بعده شرف اسمه المشرق، فإنه وحد الجميع من أبناء هذا الوطن بمختلف أعراقهم ومذاهبهم وانتماءاتهم الطبقية بطيب فعله وأثره، ليكونوا له جميعا أشقاء وأبناء يذكروه بطيب الكلام، ويرفعوا له كفوفا ملتهبة بالدعاء عسى أن يدخله الله فسيح جناته.
ما الذي فعله سعد لينل مثل تلك الخاتمة الطيبة، وذاك التشييع الوطني المهيب؟!
لم يكن تاجرا ثريا محسنا يغدق بخيراته وأنعامه على الفقراء إشفاقا عليهم، أو في حالات أخرى، ليشتري ودهم، ويكسب رضاهم، ويتقي حسدهم، كما أنه لم يكن قائدا سياسيا لامعا أو خطيبا مفوها، أو ذا سعة علم أو اطلاع متجاوز، أو صاحب فصاحة وبلاغة معجزة، أو كاريزما طاغية حتى يلتم حول قبره ومثواه الأخير مختلف أطياف وطوائف الشعب البحريني بطيبته ورحابة صدره الأصيلة، ما لم ينله غيره من وجهاء ورجالات بارزين في هذا البلد الرازح تحت أثقال تقسيم واحتقان طائفي بغيض.
ببساطة كان إنسانا متشددا في فطرته الإنسانية!
ربما ما أحمله وأتعلق به من أطراف ذكريات غراء حوله كان ما يتعلق بأيام قضيتها في المدرسة التي ضمت أبناء الزلاق وأبناء القرى المجاورة، وعلى رغم اصطدامنا في مراحلنا الدراسية الأولى بفجاجة الواقعية الطائفية الطارئة، على رغم تسيدها على الثقافة المجتمعية، حينما كنا نلعب كرة القدم بين فريقين متواجهين هما فريق «السنة» وفريق «الشيعة»! فإن الماء الطيب الصافي من منابعه العريقة سرعان ما يفور ويمتد بين الثغور والندبات المجتمعية الصلبة ليمهدها بألفته ونعومته، ومثله في ذلك كمثل الراحل سعد سالم حينما يقف بفطرة إنسانية وحنان أبوي جارف ليجمعنا قلبا واحدا بغض النظر عن اختلافاتنا الأولية، لنظل منشدين معا كلمات بسيطة بصوت واحد «أهلا بمدرستي، أهلا بأصحابي، من شارعي هذا، أو شارعٍ ثانٍ»، أو حينما يجد الطالب المفزوع بعدما أضاع نقوده أو الطالب الجائع إلى حماه ليمسح على رأسه ويعطيه كعادته بأبوية حميمة النقود من جيبه الخاص ليشتري له من مقصف المدرسة طعاما عسى أن يسد رمقه، وما أكثرهم حينها من جوعى ومساكين، وما أكثرهم أيضا من براعم «جمبازية» و»عيايرة» بالفطرة!
علمنا الراحل معاني الأخوة والمواطنة والكرامة والانتماء والألفة ما بيننا سنة وشيعة منذ الصغر، وهو يضمنا جميعا زملاء ورفاقا وأصدقاء دونما حاجة إلى طائل من التنظير والتبهيت والترقيع، وإنما بأبسط تصرف إنساني عفوي!
ما يذكر عن الراحل وما عرف عنه بين الكثير من معارفه وأصحابه ومعاصريه هو إدمانه الشديد للتبرع والمبادرة إلى فعل الخير أيا كان مستحقها، وكأنما هو على عداوة أزلية بجيوبه، فلطالما حطم بنقوده ومتحصل رزقه المعيشي الوحيد تلك الحواجز الطائفية البغيضة التي فصلت بين صناديق العمل الخيري ومحافل البر والعطاء، ببساطة لم يعرف سنيا ولا شيعيا، وإنما أخا محتاجا يلبي على الفور احتياجاته بما استطاع إليه سبيلا، ومكروبا يفرج كربته، ومسكينا يحنو إليه ويفتح له أوسع أبواب قلبه ضاربا الطائفية والفئوية أينما حلت بألف مقتل، ومستخدما في ذلك أسلحة الدعة والمحبة والألفة الحيوية الفطرية.
كما أن ألفته الاجتماعية تلك المتجردة بكل نقاء من تلبيسات السياسة والايديولوجيا والطائفية والفئوية والمصالح الدنيوية الفانية في عصر مليء بالحواجز والجدران والمسافات الشبحية أخذته أخا كريما وضيفا عزيزا وصديقا ودودا في المنزل والمدرسة والمسجد والمأتم، في قريتنا الزلاق أو في القرى الحميمة المجاورة، وسائر مناطق البحرين الحبيبة، وفي كل مكان يؤدي واجباته الفاضلة وأدواره السامية في حلقات التضامن الاجتماعي الإنساني النبيل الذي يذيب الاختلافات السياسية والمذهبية، ويضمر الفروق الطبقية بين البشر، وخصوصا أبناء الشعب البحريني الأصيل، وإن تنوعت أعراقه وطوائفه، وتشعبت مصالحه السياسية تشابكا أو تناوء!
ما أحوجنا إلى عفوية وصفاء هذا الراحل الكبير، وما أحوجنا إلى ذكراه العطرة بعد ضاقت علينا الحدود والثنايا، وارتفعت الحواجز والجدران، على رغم اتساع الصدور وترامي أطراف أنفس نيرة ما أخذتها العزة بإثم الطائفية، وعلى رغم أننا مكبلون في ما يشبه السيناريو الاصطناعي الذي يجبر الفرد أن يسير ويظل على مداره مرغما كيلا تسحقه الأقدام وتمزقه التروس والجنازير والعجلات التي يدور بها هذا السيناريو الشيطاني!
لايزل الوالد الغالي محتفظا بقطعة من خشب «العود» كان قد أهداها إياه المرحوم، ويصر بشدة على عدم إحراقها واستهلاكها تخليدا لذكرى المرحوم العطرة، فلربما أحرق هذا «العود» في أجمل أيام الوطنية التي وإن لم نرها بعد، ولكنها حتما ستأتي طالما لم تتوقف البحرين عن إنجاب أمثال سعد سالم (رحمه الله)، وهم الذين يزداد الفقد اشتعالا لذكراهم من بعد أن رحل عنا حديثا ابن البحرين البار الوجيه المحسن سيدموسى العلوي (رحمه الله)، والذي لايزل في قلب قرية الزلاق الصغيرة مسجدا شامخا بمنارته يؤذن فيه للصلاة، بعد أن شيده الوجيه الراحل على نفقته.
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1602 - الأربعاء 24 يناير 2007م الموافق 05 محرم 1428هـ