العدد 1602 - الأربعاء 24 يناير 2007م الموافق 05 محرم 1428هـ

الإنسان في خطاب الإسلام السياسي المعاصر عنصرية وانجراح للهويّة

من خطاب النهضة إلى حركات الإسلام السياسي:

شكّل محمد رشيد رضا لحظة تحوّل مفصليّة، في مسار الفكر الإسلامي، والتوجّه من خطاب النهضة الإصلاحي إلى الخطاب الإسلامي المعاصر، الذي تجلّت فيه النزعة الانكماشية التي طرأت على الأجواء الإسلامية في معظم الدول العربية والإسلامية.

والسبب يعود بالدرجة الأولى إلى اختلال العلاقة مع الدول الطالعة، علاوة على التأزم الثقافي والسياسي الذي واجه الإصلاحيين في تصدّيهم للاستعمار، الأمر الذي ساهم في تهيئة الأجواء لبروز الفكر المؤسس لحركات الإسلام السياسي.

والمقصود بحركات الإسلام السياسي، تلك التي تصرّح وتسعى لإقامة دولة «إسلامية», وتمتلك البنى التأسيسية التنظيمية لذلك، ولها قواعد جماهرية شعبيّة مؤيدة لمشروعها، وإن اختلف حجم هذا التأييد وفاعليته من مكان لآخر. وقد استطاعت هذه الحركات أن تحوّل الدين من وظائفه الأخلاقية والروحية إلى دور سياسي براغماتي فاعل عبر ترجمة أطروحات ايديولوجيّة معارضة للأنظمة الحاكمة التي بغالبيتها فاسدة وقامعة ودكتاتورية، الأمر الذي أدّى إلى نجاح تلك الحركات في الأوساط الشعبية والنقابية والمهنية.

الإنسان في أطروحة «الحاكمية»

استمدت الحركات الإسلامية خطابها الايديولوجي والبنى الأساسية له، من الفكر السلفي في عصور الانحطاط ، لقد استدعت الطوباوي والمثالي من خلال مقولة «الحاكمية» التي تعني الاحتكام لله من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية في كل مناحي حياة الإنسان، وهذا الاحتكام لا يكون إلا عبر الاستناد إلى القرآن والسنة، الأمر الذي أدّى إلى اسبعاد أي إنسان لا يتحلّى بتلك المعايير، ما أوقع ممثلي هذا المشروع في فتاوى التكفير واستحلال الدم والتفريق بين المرء وزوجه.

وتعود فكرة النظام الكامل هذا الذي رأسه الحاكمية وهدفه تطبيق الشريعة الإسلامية، إلى الخمسينات من القرن العشرين على يد أبي الأعلى المودودي زعيم «الجماعة الإسلامية» في باكستان، ثم في مصر مطلع الستينات على يد سيد قطب الذي يعتبر أحد أبرز مفكري «الإخوان المسلمين».

لقد استخلص سيد قطب مفهومه عن الإنسان من الواقع وحوّله إلى نظام فكري مطلق قاطع، فمصدر المعرفة النهائي عنده هو الله تعالى، وجوهر الله وصفاته لا يمكن التوصل إليهما أو فهمهما عن طريق الفكر الإنساني، ومعرفة الإنسان هي للحقائق، لذلك فإنه يقول باستحالة المعرفة عن طريق الفلسفة لأنها بنظره فرع المعرفة، كما أن هناك أجزاء من الطبيعة لا يمكن للفكر الإنساني الاطلاع عليها؛ لأن فهم الإنسان محدود بالطبيعة، ودور العقل هو وسيلة التلقي والفهم والتأمل من أجل التوصل إلى حقيقة ما هو موجود، فالوسائلية هي أساسية في فكر سيد قطب، لذلك عند عدم وجود نص قرآني في موضوع معين فإنه يعود إلى فائدة الأفكار من أجل التوصل إلى صحتها أو عدمها، فالأفكار عنده ليست مهمة بذاتها بل بنفعها، والقواعد هي تقديرات تجريبية، والإسلام عنده ليس شعائر دينية أو دعوة أخلاقية أو مجرد نظام حكم أو نظام اقتصادي... فهي كلها أوجه للإسلام وليست الإسلام كله، فجوهر الإسلام هو مفهومه للحياة وللكون، والذي يشكل الأرضية لكل أوجه الإسلام، وعليه فإن النظام السياسي الذي يجب أن يحكم الحياة الإنسانية يتوقف في صحته ومصداقيته على التفسير الشامل للمفهوم الإسلامي وقيمه والذي يتميز بسبع خصائص أهمها التوحيد, ويعتبر انه من دواعي التوحيد وضروراته اتباع المنهج الإلهي المستمد من عقيدة إلهية، وهو المنهج الوحيد والصحيح، وما سواه فهي أنظمة وضعية من صنع البشر، والمجتمعات هذه هي مجتمعات «جاهلية»، وعليه فإن هذه المناهج الوضعية تتعدى على الخاصية الألوهية، وتمسّ توحيد البشر، فهؤلاء الذين يستمدون منهجهم من ملك أو أمير أو عشيرة أو شعب ليسوا أتباع دين بل أتباع دين الملك أو العشيرة أو الشعب وهم «طواغيت» ويعيشون في «جاهلية»، والخضوع للأنظمة هو إشراك بالله إذا ناقض الرسالة الإلهية، وبناء على ذلك فلا يمكن للمسلم أن يكون مسلما وهو يتبع منهجا غير إسلامي في حياته، فالمنهج هو الدين.

النزعة الانكماشية نتيجة مشروعات الهيمنة

إن أطروحة «الحاكمية» أدت إلى استبعاد المسلم العادي فكيف بغير المسلم؟ فهذا الخطاب يتمسك أثناء طرح قضاياه بوضع حدّ حاسم بين «الإنسان المسلم» و «الإنسان غير المسلم»، كما أنّ هذه المقولة تحصر مفهوم «الإنسان» في بُعدٍ عنصريٍّ ضيّق؛ لأن الإنسان في تلك الأطروحة لا يكتسب إنسانيته إلا من خلال الانتماء لهذا الفكر الذي يستبعد وينفي كلّ البشر، فينكمش مفهوم الإنسان في خطاب الإسلام السياسي المعاصر ويتضاءل لينحصر في «المسلم»، المنطوي تحت جناح تأويلات النفع السياسي للدين والعقيدة، فتتباعد المسافات، وتتسع الهوّة بين «مثالية» النصوص الدينية من جهة، وبين «واقع» الفكر الديني بشقيه الرسمي والمعارض من جهة أخرى.

وتأتي الظروف السياسية والعسكرية والإقليمية لتكرس نزعة الانكماش العنصري هذه بسبب التدخل السافر من جانب قوى الهيمنة والسيطرة الدولية المتمثلة بسياسة الإدارة الأميركية التي تتحكم في مصائر البلاد والعباد، من خلال الاحتلال العسكري المباشر أو من خلال فرض حكومات دكتاتورية وأنظمة شمولية قامعة على الشعوب باسم «حقوق الإنسان» وهو أمر أقل ما يقال فيه بأنه مخجل ومضحك في آن.

إن مجتمعنا العربي الحالي يتعرض اليوم للاستغلال والتمييز والظلم فهو يواجه سياسة اغتصاب سافر متمثلة في «إسرائيل» من جهة وقوة هيمنة متمثلة في تحكم الإدارة الأميركية في قرارات الأمم المتحدة من جهة أخرى، علاوة على وجود حكومات مترهلة قامعة له.

هذا المجتمع مطالب اليوم في سياق تلك التحديات بتكريس قضية الدفاع عن الإنسان وحقوقه وجعلها القضية الرئيسية في خطابه. وذلك لن يتحقق إلا من خلال تحرير الفكر من كل تبعية، لأنه عند مناقشة القضايا المجتمعية المنبثقة عن الرؤية التي يحددها المجتمع تجاه الكائن الإنساني وحقوقه وواجباته، غالبا ما تذوب المشكلات الأساسية في سياق التأويلات المؤدلجة النفعية لنص الخطاب الديني. فالتحرر الإنساني من الارتهان الخارجي والقمع الداخلي مرتبط وقبل كل شيء بالتحرر الاجتماعي والفكري العام.

* كاتبة لبنانية

العدد 1602 - الأربعاء 24 يناير 2007م الموافق 05 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً