لا داعي لفرك عينيك، فما قرأته صحيح، شعب للبيع، البضاعة التي مآلها الكساد تباع قبل أن تكسد، بسعر مخفض أيضا، أليس ذلك قانون السوق؟ مرة قال لي صديق، ما رأيك جلاوي أن نهاجر مجموعة كبيرة إلى مناطق نائية في أستراليا، ونؤسس مجتمعا لنا هناك، نقيم أولا بيوتا من خشب، ثم نفتح مطعما، وحديقة صغيرة للأطفال، ثم نطالب الدولة بإنشاء مدرسة خاصة لنا، تراعي ثقافتنا ولغتنا، وبالضرورة سنعتبر أقلية، وبذلك يحق لنا التمثيل في برلمان الدولة.
وعندما سألته: ماذا سنفعل ببلدنا؟ سألني: أي بلد؟ قلت له: أرضنا، قال: هل تملك أرضا فيها؟ حاولت أن أبتسم قليلا لأخفف من وطء حديثه، لكن ملامحه بقيت جادة لحد قاتل، ثم واصل حديثه كأن شيئا لم يعترضه، وأرضنا هذه يا صديقي سنؤجرها إذا أحببت، نعم نقوم بتأجير وطن، ونقدم نصف الإيجار لاستئجار وطن آخر، أو نقوم ببيعه بالأقساط، فلما اعترض آخر على التأجير، طالبه بتقديم عرض آخر، واحتج صديقنا الثالث بأن الوطن الذي يتحدث عنه مؤجر سابقا، ويقيم فيه أناس لا نعرفهم، ويتحدثون بلغات لا نفهمها، والأمر الثاني أن هذا الوطن تملكه الدولة، فمن أجاز لك بيع أو تأجير ملك الغير!
كان حديثا سخيفا، والأسخف منه - أتدرون ماذا - أنه انعكاس لما يحسه مثل صديقي في وطن مستأجر، وبشروط غير مستوفية لإنسانيته، وطن لم يعد صالحا لإعادة تأهيل، ولا يحمل أوراقا معتمدة، هويته محل تأمل، وجغرافيته علب أسمنتية، وأقفاص من حديد، وشعوب مستورَدة، بحجة أن هذا الشعب الذي يعيش تحت سقف هذا الوطن المزعوم، غير صالح لشغل منصب شعب، شعب غير مروَّض للانجرار وراء ثقافة الطائفية في هذا البلد، شعب لا يقبل بالمفاوضات على حساب وجوده، إذا هذا شعب خارج على نظام الدولة.
شعب للبيع، وطن للبيع، كرامة للبيع، آسف هذه الأخيرة غير موجودة، أو نفدت ولم تعد الشركة تصنع مثلها، ولكن ماذا لو قمنا باستبدال هذا الشعب على سبيل التغيير؟ ما الضير في ذلك؟ نستبدل دعاء أمهاتنا حين يقفن أمام الشبابيك وهن يربطن خيوط نذرهن، لرجوع منفي أو مسجون، وماذا لو نستبدل ذاكرتنا الغبية عن طفولتنا، ومدرستنا التي كنّا نهرب منها، ومدرسينا الذين كنّا نسب؟ ماذا لو أبدلنا لغتنا وأغانينا التي كنّا نغني؟ ماذا لو نسينا بعضا من نشيدنا الوطني، ورحنا نردد «بحريننا وطن الكرام»؟
صدقوني لا شيء سيتبدل، الأشياء التي تخافون استبدالها مستبدلة أصلا، فلم يخرج السجناء بدعاء أمهاتهم كل ما حدث أنهم خجوا من أقفاص حديد، إلى سجن أكبر، على خلفية أنه الوطن، وبعفو عام ولله الحمد، لكنهم سيلاحقون بتهمة الولاء، وذاكرتنا صارت ذاكرة مثقلة بالحزن والسجن والقتل، فما الضير لو نستبدلها بذاكرة جديدة بضمان سنوي؟ ومدرستنا لم تكن لنا، الطلبة والمدرسون كانوا أبناء الجيران فقط، ونشيدنا الوطني - ألا رحمة على نشيدنا الوطني - مقطوعة رومانسية لا تصلح لزمن ثقافة الاستبدال.
فما الضير أن نبيع الشعب؟ هو أفضل من إبداله، فالشعوب تطالب دائما بمستحقاتها، وهو أمر يتعارض مع «أمن الدولة» وثقافته الكريمة، فلذلك ورفعا للحرج الذي قد يتعرض له ولاة الأمر والسادة، أعلن اليوم بكل قواي العقلية والجسدية، وبما أتمتع به من حزن، أن هذا الشعب الذي بين أيديكم معروض للبيع أيها السادة، هويتنا معروضة للبيع، سبحات جداتنا وقرائينهن معروضة للبيع، دفاتر أبنائكم المدرسية، ومطابخ زوجاتكم، ذاكرتنا أفراحكم وأحزانكم كلها معروضة للبيع، وأخيرا يبدو أننا معروضون للبيع أيضا، فشكرا لك على ثقافة الإبدال والمواطنة!
العدد 1602 - الأربعاء 24 يناير 2007م الموافق 05 محرم 1428هـ