العدد 1602 - الأربعاء 24 يناير 2007م الموافق 05 محرم 1428هـ

أربعة حفّارين في جنـة واحـدة

أينما تولي فثمة دهشة ترصدك... لأنهم:

دخلتُ صالة الرواق قبل افتتاح معرض الحفارين الأربعة بيوم، لتقابلني صاحبة الصالة هيفاء الجشي بابتسامة، وتردف أن المعرض غير مفتتح. بالنسبة إلي أعرف ذلك، غير أني لا أحب الافتتاحات الرسمية، وعادة أزور المعرض بعد يوم من افتتاحه هربا من الرسميات، وهي فرصة للتمتع بالأعمال بحرية أكبر، لكن هذه المرة سبقت الافتتاح، وبعد الطرد غير الرسمي من الصالة «بابتسامة»، أسعفني وجود الفنان جمال عبدالرحيم، الذي صافحني ودعاني إلى الدخول. داخل الصالة تجد الجشي مع إحدى العاملات ترفع طاولة لتعيد ترتيب المكان، وفي جهة أخرى مديرة الصالة جهاد تلصق الأرقام على اللوحات، أما جمال فكان في انتظار الذهاب إلى المطار ليقل أحد الفنانين المشاركين في المعرض.

للوهلة الأولى لم أميز بين الأعمال، بسبب تشابهها وتقارب التقنية فيما بينها، لكنني صرت فريسة لكل هذه اللوحات التي تسند قامتها على الجدار، صرت متحيرا في إلقاء النظر عليها، لكن صديقي جمال أخذ بيدي، ربما لأنه أحس الحيرة في ملامح وجهي، فخصني بجولة سريعة على المعرض، وهو يشير إلى اللوحات ونبذة عن كل فنان، كل الأعمال المعروضة تنتمي إلى الحفر.

تقنية الطباعة بالحفر أو «الجرافيك» التي يقدم من خلالها أربعة فنانين عالميين معرضهم بصالة البارح للفنون التشكيلية، هي طريقة تعتمد على ألواح نحاسية أو فولاذية، تغطى بطلاء شمعي، يقوم بحماية الأجزاء التي لا ينوي الفنان تعريضها للحمض، ثم يقوم بالرسم على هذا اللوح الشكل الذي تلهمه اللحظة إياه ومخيلته، بعد ذلك يقوم بغمرها في الحمض، لتتآكل الأجزاء المكشوفة من الصفيحة، بالأشكال والسُمْك الذي يقترحه الفنان، وذلك من خلال خبرته في التعامل مع مساحة كشف الصفيحة للحمض، ومدة بقائها فيه. بعد هذه العملية يقوم الفنان بتحبير المناطق التي تآكلت من الحمض، والمناطق التي يريد توزيع اللون على جسدها، ثم توضع هذه الصفيحة بألوانها على ورق معين، ليضغط بقدر ومدة معينة، يحددها الفنان بحسب ما يريده من بروز في سطح اللوحة، وبذلك تظهر لنا لوحات ناتئ سطحها، وألوانها خاضعة لشيء من مزاج الفنان، وشيء من كيفية تآكل اللوح المعدني، مع مزاجية انتشار اللون، وهي عملية تأخذ الكثير من الوقت والجهد.

ربما يكون ممتعا أن تصطاد نوارس كثيرة بفخ واحد، غير أن المثال السابق لا ينطبق هنا، إذ إن الجشي تستضيف أربع قامات عربية وعالمية في معرض واحد، وتقترح على المتلقي وليمة دسمة، لكن هذه الوليمة تحتاج إلى مسافة زمنية، وإلا أصبت بنوبة تخمة مبكرة، كما تحتاج أيضا إلى دراية جيدة لقراءة الأعمال المقدمة، التي سيكون من الصعب على أي متلقٍ أن يتلقى كل هذه الشحنات البصرية والدلالية في يوم واحد، لكن هو تحد يستحق أن تلقي بنفسك في ناره، هذه النار التي لن تقول لك «بردا وسلاما»، بل ستلتهم حواسك، وتتركك عرضة الدهشة التي أينما تتلفت تكمن لك.

يلتقي الفنانون الأربعة في تجارب متشابهة، إذ يقدم ثلاثة منهم تجارب رسم مع أعمال نثرية أو شعرية، في فن صناعة الكتب، إذ قدم الفنان محمد خليل عمر مع أدونيس عملا مشتركا، وهو عبارة عن قراءة فنية لأعمال أدونيس، وقدم الفنان جمال عبدالرحيم عملا أو قراءة لأعمال الصوفي الكبير الحسين بن منصور الحلاج، كما قدم الفنان مظهر أحمد عملا مع نصوص الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي. يذكر أن جمال عبدالرحيم له تجربة سابقة منذ مدة مع الشاعر العربي الكبير أدونيس كذلك، وهي قراءة لنصوص أدونيس برؤية عبدالرحيم، قدم هذا المعرض في البحرين وخارجها، كما أن له تجارب في فن صناعة وقراءة الكتب برؤية فنية تعدت العشرين عملا، كان آخرها ما قدمه في هذا المعرض، في كتاب الحلاج.

الفنان الأول هو محمد عمر خليل، مواليد السودان العام 1936م، حاصل على شهادة الفنون الجميلة من أكاديمية الخرطوم وفلورنسا، له مشاركات في الكثير من المعارض العالمية، منها بينالي الحفر في بولونيا وبرلين وبروكلين، حائز على الجائزة الأولى في فن الحفر من الأكاديمية الوطنية في نيويورك، كما اقتنت الكثير من متاحف الفن وصالات العرض العالمية أعمالا له، يقطن حاليا مدينة نيويورك كمتفرغ للعمل الفني.

الكثير من النقّاد التشكيليين أشادوا بتجربة محمد عمر، كما أشار البعض إلى استفادته من مخزون ذاكرته، بين الطبيعة والغابات في إفريقيا، وصخب المدن في نيويورك، ومزج بين ثقافات كثيرة ومتعددة بحرفية عالية، فهو ابن افريقيا السمراء وثقافتها، وصاحب ثقافة عربية إسلامية أيضا، لكنه يعيش في الغرب، ويبحث عن أشكاله في البيئة المحيطة به، كما يبحث عنها في ذاكرته وثقافته، هذا التمازج ما ميز بصمة محمد عمر في أعماله، وقدم للعالم فنانا مختلفا.

الملفت في أعمال هذا الفنان، أنه يعتمد على الأبيض والأسود، كلونين أساسيين في أعماله، ما يشكل صعوبة في التعامل مع خيارات لونية محددة. من هنا تأتي عبقرية محمد عمر في استخدام اللونين، قد يكون ذلك إشارة إلى ذاكرة مكتنزة في تجربة الفنان، فهو صاحب خبرة طويلة في مجال الجرافيك، وهو أحد مؤسسي مهرجان أصيلة، ومن هنا أيضا يظهر الفنان محمد عمر كمدرسة في الحفر والطباعة.

أما الفنان الثاني فهو منيرالإسلام، من مواليد «دكا» بنغلاديش، درس وعاش في إسبانيا، يعتبر منيرالإسلام أكثر الفنانين تأثيرا منذ الستينات في بلده، ومثل الفن البنغلاديشي في عواصم العالم لمدة طويلة، كما عمل على تقنية الألوان المائية في المراحل الأولى، كمادة لصنع لوحاته، ثم توجهه إلى إسبانيا في نهاية الستينات. استفاد منيرالإسلام في هذه المرحلة كطالب من ذاكرته عن مدينته «دكا»، التي قال عنها لاحقا «لقد صدمت عند رجوعي إليها بعد عشر سنوات»، لقد تغيرت مدينته، كما تغير هو كثيرا أيضا، وفي العام 1969م، عندما كان يبلغ من العمر السابعة والعشرين استقر في مدريد بإسبانيا، لم يستطع التخلص من جمالية ذاكرته عن وطنه، فقال عن ذلك «عشت في بنغلاديش سنين طويلة، فطفولتي ومراهقتي هناك، ومازالت طبيعتها تسحرني».

يمكن للمتلقي أن يجد مدينة منيرالإسلام تتسرب إلى أعماله، فيجد مراكبها وحقولها وحتى أناسها، إذ يعتبر منيرالإسلام أن الطبيعة جزء لا ينفصل عنّا، وقد خلقنا منها ونعود إليها، ونحن كذلك نعيش في حضنها، ولكن أشكال الطبيعة في أعمال منيرالإسلام تميل إلى التجريد، وقدم خلال وجوده في إسبانيا، خلال الفترة الأولى، أعمالا كثيرة بالألوان المائية، كانت عبارة عن مشاهد من وطنه الأم، وهو ما شكل له الفترة الأولى لتفريغ ذاكرته، والمضي في تجربته التي ستأخذ شكلا مختلفا ومتصلا بسابقه، لكنه في معرضه الأخير كان من الصعب عليه حضوره، وذلك لمشقة الرحلة من إسبانيا إلى البحرين، وهو الوحيد المتغيب عن المعرض.

الفنان الثالث منذ 1973م كان مبهورا بكل شيء، كأنه ينزل من حافلة ذات طابقين ليدخل بناء خارج البيئة، إلا أن شاكر حسن حضر في نشأته، فبلله جنونه الرائع، فحاول أن يدخل المقام العراقي إلى أعماله، وكارثة يقول: «لو أني كنت أطرشا»، بهذه الذاكرة يدخل الفنان الثالث مظهر أحمد على أعماله، فنان عراقي، يقيم الآن في السويد، حاصل على شهادة الفنون الجميلة سنة 1979م، حاصل على الجائزة النرويجية المحكمة لمعرض الحفر العاشر في النرويج، أقيمت له معارض ومشاركات كثيرة حول العالم، حاصد لجائزة نوبل في الفنون للعام 2000م.

فنان مشغول بتطوير آلته الفنية، اكتسب شهرة عالمية من خلال أعماله المتميزة في فن الطباعة والحفر، مسكون بهوس يدفعه دائما للجديد والمدهش، تعلم على يديه الكثير من الفنانين، وأخذت منه الكثير من التقنيات، التي أغنى بها الفن في العالم، يمكن للمتلقي لأي عمل لهذا الفنان أن يكتشف بيسر مدى قوة معالجاته للموضوعات التي يقدمها، وهو من الأوائل الذين شغلهم ليس تطوير أسلوب معالجة اللوح أو السطح فحسب، أو حتى التعامل مع الأحبار وآلات الطباعة فقط، بل ذهب أعمق بابتكاره معالجات بديلة، تفوق فيها على الأطروحات الأكاديمية، وأدخل طرقا مختلفة إلى عالم الطباعة والحفر، كما استخدم الحجر كسطح للطباعة بطريقة أكثر بساطة من السابق، قدم ونفذ أعمالا مدهشة بهذه الطريقة، أهلته أن يكون أحد الفنانين المتميزين في عالم الجرافيك.

الفنان الرابع هو فنان بحريني، عرف بهوسه وجنونه الجميل في الفن، قدم الكثير من الأعمال المختلفة والمميزة، نفذ أعمالا تنتمي لمدارس كثيرة، وبتقنيات متفاوتة، أقيمت لها معارض كثيرة، منها في أوروبا والشرق الأوسط، كما حصد الكثير من الجوائز العالمية والمحلية، الفنان جمال عبدالرحيم، هذا الحائز على الجائزة الكبرى في كل من الأرجنتين وإسبانيا، أطلق حديثا اسمه على أحد شوارع ألمانيا تكريما لما يتمتع به من موهبة، تعد تجربته من أهم التجارب البحرينية في الحفر والطباعة.

من الصعب إعطاء قراءة مرتجلة لمثل هذه الأعمال المقدمة، إذ هي متقاربة من حيث التقنية والمعالجات لدرجة مخيفة، تكاد لا تميز بعض الأحيان بين أعمال الفنانين، استخدم البعض منهم الطباعة على سطح متعدد الألوان، والبعض الآخر أدخل الطوابع والقصاصات الورقية، والكثير منهم استفاد من تشكيل الأقمشة في لوحاته، تجد اللونين الأحمر والأسود لونين رئيسيين في الأعمال المقدمة، والبعض استخدم الكتابة كتشكيل مكون لفضاء أعماله، أخيرا كان الممتع حضور مثل هذا المعرض المهم على مستوى الطباعة والحفر، لكن بشريطة أن تمتلك الوقت لترتيب كل هذه الشحنات الجمالية التي قد تصيبك بنوبة فرح، فأنت عرضة لأكثر من دهشة.

العدد 1602 - الأربعاء 24 يناير 2007م الموافق 05 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً