العدلية - محرر فضاءات
«أنا من الذين يعتقدون أننا لا نصف بالتحديد لحظة ولادة القصيدة ؛ لأنها لحظة إلهية غير قابلة للتوصيف... حين أراد الله أن يتجلى لموسى قال له: انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني لكنه لم يستقر، وحين أراد أن يتجلّى لإبراهيم قال له: اذبح الطير واجعل على كل جبل جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا. فلحظة الكتابة لا نستطيع الحديث عنها هي ذاتها بل عما يعادلها أو ما يشبهها، فقد نقول هي تشبه الإلهام التلقائي أو العفوية ولكنها العفوية المقصودة أو كنت أسميتها ذات مقال الإهمال الذكي. هي لحظة لا نذهب لها قصدا، لكن حين نصل هناك نحن نرتب وضعنا جيدا».
بهذه الكلمات التي أطلقها في مقابلة له، يدخل كريم رضي كشاعر ناقد على القصيدة، بعد إصداره ديوانه الأول «أحاديث صفية»، التي يقول عن صفيته أنه لا يعرف من أين جاءت؟ هذا الديوان الذي حاز جائزة قطاع الثقافة «المرتبة الثانية»، منعته دائرة المطبوعات والنشر الأردنية، وقام البعض بحرقه، تجدر الإشارة إلى أن هذا الديوان لامسه النور بسبب إلحاح الأصدقاء على رضي، ولم تكن نية النشر خيارا حاضرا لديه، فقام أصدقاؤه بجمع الديوان وعرضه للطباعة.
صدر الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، بالتعاون مع قطاع الثقافة في البحرين، يقع الكتاب في إحدى وثمانين صفحة من القطع المتوسط، ووضع على خلفية الغلاف مقطع من قصيدته «أحاديث صفية»، والتي أسمى الديوان بها.
أنا يا صفية هذا الكلام
رماني على حجر طيب
فركته العصور الحزينة بالزنجبيل وبالشهوات
ليشرق في ظلمة الخلوات بسر حرام
حجر بان في لحمه أثر
من خطى الأنبياء الوحيدين
لاذ به العاشقون الكسالى
مع الأمهات الصغيرات
قبل اكتناز اليمام
أنا يا صفية شمس المنام
تتمتع تجربة كريم رضي بحس تفعيلي مرهف، يتنقل فيه بين الأبحر العروضية، تنقل الطير على بذور الحقل، حتى في جسد النص الواحد، له غنائية خاصة به، واللافت في تجربة هذا الشاعر أنه قدم نصا نثريا موازيا لنصه التفعيلي، وبعض الأحيان متجاوزا له؛ ليكون صاحب نص نثري مغاير ومتجاوز، شاعر يعتمد سلاسة التعامل مع الكلمة، بحرفية عالية، وإتقان رائع.
ولد الشاعر كريم رضي العام 1960، عمل بعد تخرجه في محطة إنتاج الكهرباء وتحلية المياه في سترة ثم غادر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة منذ العام 1980 إذ عمل هناك في شركة البترول، شهدت فترة وجوده بدولة الإمارات العربية المتحدة نشر أولى محاولاته في الكتابة المقالية والإبداعية وخصوصا في جريدة الخليج الشارقية، في بداية التسعينات انضم إلى الملتقى الشبابي الإبداعي الذي أسسته أسرة الأدباء والكتاب في البحرين إذ رافقه في الملتقى مجموعة من الكتاب الشباب آنذاك عرفوا فيما بعد بجيل التسعينات.
وفي أمسيته التي قدمها بأسرة الأدباء والكتاب، بمقرها الكائن بالعدلية، ألقى رضي بعد مقدمة شعرية هي عبارة عن تساؤلات نصوصا نثرية، يمكن أن يطلق عليها سيرة غير رسمية، كان يلقي بحزن لاذع، يصل بعض الأحيان إلى درجة التهكم والبكاء، لم يكن الحضور قد انتبه لوقع النصوص إلا حين قال رضي في نهاية الأمسية شكرا لكم.
مفرط في إنسانيته، قريب من اليومي بخيط رفيع من الشعر، ألا لعنة عليك يا كريم، فقد كنت بكاء كثيرا، وسيرة أناس تسكن المدن والقرى، تاريخ أمة وشعوب، شعوب تختم أوراق استبدالها بمكاتب الدولة المعتمدة، وحين سألتك من أنت في زحمة التقارير الممنوعة! نظرت إليَّ بحزن وقلت:
أنا تلميذ الابتدائية الذي أغمي عليه في الطابور لعدم الإفطار صباحا
أنا الصغير الذي كانت عيناه تدمع، وكتفاه ترتعشان بلا سبب، كلما رفع صوته بنشيد فيه اسم الوطن
أنا الشقي الذي ضُرب مرات ؛لأنه قذف الكرة أعلى كثيرا من مستوى طبقته
أنا العريس الذي صنع بديونه أسرة تستظل بنجومك وتفترش ترابك، قليلة الموارد كثيرة الورود
أنا نزيل سجونك الذي كان يتعارك فيها مع من يشتمك
أنا الزوجة التي حملت لزوجها منشفة وصحن رز وصور أطفال في يوم الزيارة
أنا الأم التي رفعت كفها بالدعاء بالخير للحكومة في يوم العفو العام
أنا المفرج عنه الذي نسي ملابسه يوم الإفراج على حبل الغسيل
أنا المتسوق الذي استبدل متعة الشراء بمتعة النظر لبضائع أسواقك
أنا المتدين الذي جر الجلاوزة سجادته، ونتفوا لحيته سحبا على الأرض، وهو يقبل حصى ترابك
أنا الماركسي الذي غنى بلادي بلادي بلادي، والسياط تعزف لحنها على ضلوعه
أنا القومي المتعصب الذي رفض أمركتك وفرسنتك وبرطنتك
أنا الديمقراطي الذي دافع عن غرمائه لأنهم وافقوه على حبك
أنا العين التي دمعت، والحلق الذي اختنق بقنابل الغاز، وخطوط الدم المتكتل كالحبال بضرب السياط
أنا اليد التي حملت بطاقة الاقتراع ببسمة ساذجة تستشرف مستقبلا مستحيلا
أنا المزمن الذي يعالج السرطان بحبات البندول
أنا الذي ابتهج بشكرك في احتفال كبير، لأنه حصل على غرفتين ومطبخ في مساحة ضئيلة من أرضك
أنا الكهل الذي أمضى عمره في حبك من طرف واحد
أنا الذي ناغى طفله الوليد بكلمة (ب ح ر ي ن)
أنا الذي أوصى أبناءه أن يفرطوا في كل شيء إذا اضطروا إلا حبك
أنا لست واحدا بل كثيرين
في المدن والقرى
على السواحل وفي النخيل
في البيوت التي تضيئها المصابيح الذابلة في المساء
طوال تاريخي معك برغم كل مشاحناتنا كنت أنت أنت
مع كل إحباطاتي ومعاناتي
اليوم تغيَرتَ كثيرا
أصبحت تستبدل الشعوب كالأحذية، كاستبدال المكائن
كلما عتق شعب جلبت مكانه شعبا جديدا
نحن الصديقان اللذان غضبا وتصالحا مرات كثيرة، دون أن أفكر في استبدالك بوطن آخر
كيف صار العشق وعذابه لا يساوي عندك أكثر من مجرد جواز سفر
كيف صارت المواطنة لا تعادل لديك أكثر من جنسية
اذهبْ
اذهبْ واستقبل رفاقا غيري، فأنت لم تعد بحاجة لمثاليتي وحبي التربادوري.
نعم أنت كل ذلك، أنت السيرة الممنوعة، وكتاب الحب الملقى على الطريق يا كريم، أنت قصيدتنا المحرمة، وأنت الشعوب التي قررت الحكومة أنها آيلة للانقراض، ومستوجبة الاستبدال، أنت الوطن الذي استوفى شروطه، لكنه لا يتسع لشاعر نزع قمصانه ؛ليدفئ جسد سجانه الموكول على حراسة سجنه، وأنت أنت ؛لأنك سيرتنا التي لا نريد أن نعترف بها، فكنت أكثرنا جرأة، وأكثرنا جمالا.
العدد 1602 - الأربعاء 24 يناير 2007م الموافق 05 محرم 1428هـ