في أواخر شهر رجب العام 60 هجرية (680م) اتخذ الإمام الحسين (ع) واحدا من أهم القرارات التي ساهمت في تغيير وجه التاريخ الإسلامي، حين رفض الانصياع والتسليم لقرار تولي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان مقاليد الحكم في الدولة الإسلامية بعد رحيل والده الذي كان قد أنشأ نظاما ملكيا، إثر تغلبه على الجيش الشرعي لدولة الخلافة الإسلامية بقيادة الإمام الحسن بن علي (ع) خامس الخلفاء الراشدين.
ومن باب التوضيح، نشير هنا إلى أن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (ع)، كان قد تم اختياره خليفة للمسلمين بعد اغتيال والده الإمام علي بن أبي طالب (ع) أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين على يد الخارجي عبدالرحمن بن ملجم فجر يوم 19 من شهر رمضان، وقد استمر الإمام الحسن بن علي (ع) أميرا للمؤمنين وخليفة للمسلمين فترة لا تقل عن ستة أشهر، حين تنازل عن الحكم بموجب اتفاق صلح بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، هدف من ورائه الإمام الحسن إلى حقن دماء المسلمين.
وكان من أهم بنود اتفاق الصلح أن تعود الخلافة إلى الإمام الحسن بن علي (ع) بعد وفاة معاوية، أو إلى أخيه الحسين بن علي (ع) في حال توفي الإمام الحسن قبل معاوية، وفي أبسط الأحوال أن يعود أمر الخلافة إلى المسلمين لاختيار خليفة للدولة الإسلامية، لكن معاوية كان يخطط لأمر آخر.
لقد كان معاوية أحد أكثر الشخصيات الإسلامية ذكاء، وكان يحيط نفسه بعدد من دهاة العرب والمستشارين السياسيين المتمرسين في إدارة الحكم، على رأسهم عمرو بن العاص وزياد ابن أبيه.
وعندما استقر الأمر لمعاوية جمع مستشاريه للتشاور معهم في أمر الخلافة الإسلامية، فكان أن أشار عليه بعضهم وفي طليعتهم زياد بن أبيه بتنصيب ابنه يزيد وليا للعهد، على رغم امتعاض عمرو بن العاص الذي كان يطمح إلى الخلافة.
وعندها بدأت المَكَنَة السياسية والإعلامية تعد العدة وتمهد الأمور لتحويل الخلافة الإسلامية إلى يزيد بن معاوية، وكان من أهم الأدوات والخطوات التي اتبعها معاوية لتحقيق الحلم الأموي أن شرع في إجراء عدد من المشاورات السياسية مع الولاة في مختلف الولايات الإسلامية، وألحق ذلك بحركة تغييرات طالت الكثير من القيادات التي يتوقع أن تقف عائقا امام هذا القرار.
بعدها شرع معاوية في تنفيذ مشروعه السياسي عبر الإعلان رسميا عن تنصيب ابنه يزيد وليا للعهد، فأرسل الوفود الرسمية لأخذ البيعة من مختلف الأقطار الإسلامية، واختار أن يرسل زياد ابن أبيه إلى المدينة المنورة، وحين وصل الأخير إلى مدينة الرسول (ص)، خاطب أهلها قائلا: «يا معشر أهل المدينة إن أمير المؤمنين حسُن نظره لكم وإنه جعل لكم مفزعا تفزعون إليه، يزيد ابنه».
وعلى رغم أن جميع الناس كانت تعرف شخصية وسلوك يزيد بن معاوية المشهور بالفجور والاستهزاء بكل القيم والمبادئ الإسلامية والإنسانية النبيلة، وعلى رغم معرفتهم بأنه لا يتصل إلا ببطانة السوء من الخمارين والماجنين غير المتخلقين بأخلاق الإسلام وتعاليمه، بل والمستهزئين بالدين والمؤمنين به، وعلى رغم معرفتهم بأن هذا «اليزيد» المنصب عليهم وليا للعهد... كان من المجاهرين بشرب الخمر... وترك الصلاة... والقيام بكل الموبقات وعدم التورع عن أي فعل قبيح وشائن... فإن خوفهم من بطش السلطة... ودموية الدولة الأموية... جعلهم يلوذون بالصمت... لكن البيت الهاشمي... وعلى رأسه الإمام الحسين (ع) كان له رأي آخر، وهكذا أعلن الإمام الحسين (ع) رفضه ومعارضته الصريحة لتنصيب يزيد بن معاوية وليا للعهد.
وكانت أولى خطوات يزيد الخليفة الذي اغتصب السلطة الإسلامية هو إرسال تكليف لوالي المدينة بأن يأخذ البيعة من أهل المدينة عموما ومن عدد من الشخصيات خصوصا، وكان على رأس هذه الشخصيات الإمام الحسين (ع) الذي أجاب والي المدينة بالرفض مطلقا مقولته المشورة «يزيد فاسق فاجر شارب الخمر وقاتل النفس المحترمة... ومثلي لا يبايع مثله» وهنا صدرت الأوامر لتنفيذ الاغتيال فورا وفي أي مكان وتحت أي ظرف.
لكن الإمام الحسين (ع) كان قد أنجز وضع دستور الثورة الحسينية ومنهاجها، راسما فيه سبل الصلاح والإصلاح ومحددا الأسباب التي تعزز دعوته إلى إعلان ثورته العظيمة، وموضحا النتائج المأسوية والكارثية التي يمكن أن يتمخض عنها تولي يزيد بن معاوية شئون الدولة الإسلامية.
عندها قرر الإمام الحسين (ع) الهجرة إلى مكة المكرمة لإعلان رفضه في بيت الله الحرام ودعوة المسلمين إلى الثورة على هذا الحاكم المغتصب للخلافة المجاهر بالمعاصي، وفي حوار له مع أخيه غير الشقيق محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية، أعاد الإمام الحسين (ع) تأكيد مرجعية المسلمين إلى النبي العظيم محمد (ص) والى الإمام علي بن أبي طالب (ع)... مقدما شهادة تاريخية بليغة عن الخلافة الإسلامية... التي يحدد أنها كانت متمثلة في سيرة جده النبي وأبيه الوصي... فيقول:
«إنّي لم اخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي. أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن ردَّ عليَّ هذا، اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين وهو خير الحاكمين».
لقد جاءت بنود المنهج الحسيني... بمثابة المشعل الذي لايزال بعد مرور أكثر من 1400 سنة ينير الطريق أمام المؤمنين... أجل فلقد أضحت ثورة الإمام الحسين (ع) ثورة متجددة تقض مضاجع المستكبرين والمستبدين والظالمين إلى قيام يوم الدين.
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1601 - الثلثاء 23 يناير 2007م الموافق 04 محرم 1428هـ