لم أفهم حتى الآن السر في حماس ما يسمى بالدول العربية المعتدلة لاستراتيجية الرئيس الأميركي جورج بوش الجديدة في العراق... فها هي وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، قد انتزعت موافقة مصر والإردن ودول الخليج الست «مجموعة 6 + 2» على هذه الاستراتيجية، قبل ساعات من مغادرتها المنطقة سعيدة بالنجاح. لم يكشف لنا مسئول في هذه الدول العربية عن أسباب الموافقة ومبرراتها في هذه الظروف بالذات، إلا أن يكون السبب الرئيسي هو أولا المساعدة على تعويم موقف الإدارة الأميركية، الغاطس في دماء العراقيين من ناحية، والمساعدة ثانيا على إنجاح الحشد الأميركي الهائل ضد إيران من ناحية ثانية.
والمؤكد أن هناك رابطة وثيقة بين الهدفين الأميركيين، تدفع واشنطن لطلب المساعدة من حلفائها العرب، لكن ما هي المصلحة العربية المباشرة في مساعدة واشنطن في الحالين؟، اللهم إلا الخوف المتنامي في المنطقة من انتقال العدوى وانتشار فيروسات الصراع الساخن الى الدول المجاورة، ثم ما هو الثمن الذي يمكن أن نحصل عليه نتيجة ذلك؟.
لقد طافت وزيرة الخارجية الأميركية على الكثير من العواصم العربية في جولتها الأسبوع الماضي، حاملة رسالة حاسمة تقول عليكم أنتم الحلفاء أن تقفوا معنا في المعركة، وإلا طارت رؤوسكم وسقطت نظمكم، كما عبر عن ذلك صراحة الرئيس بوش، ومن شدة التحذير وغلظة النذير استجابت هذه العواصم سريعا، وتتالت تصريحات وزراء الخارجية واحدا بعد الآخر، مؤيدة لاستراتيجية بوش، بينما الكل يعلم أن هذه الاستراتيجية هي النفس الأخير للاحتلال الأميركي في العراق، بعد أن زادت حدة تورطه في المقتلة العراقية، وبعد أن سقط بوش في ورطة داخلية موازية إثر موقف معارضيه الديموقراطيين أصحاب الغالبية في الكونغرس، الرافض لهذه الاستراتيجية المهددة بشل يده.
تصورنا أن الموافقات العربية المتسارعة، قد جاءت بعد أن حصلت من الإدارة الأميركية على مقايضة عادلة، تقضي بأن تسرع هذه الإدارة بتبني موقف جديد وسياسة حاسمة، لحل الصراع العربي الإسرائيلي في فلسطين، وتسوية قضية احتلال الجولان السورية.
غير أن الحقائق المطروحة في الساحة حتى الآن، تدلنا على أن الإدارة الأميركية قد أزاحت القضية الفلسطينية في جوهرها خطوات الى الخلف، وأعطت الصراع في العراق، والمعركة الساخنة مع إيران الأولوية المطلقة، وبالتالي فإن كل ما قيل ويقال عن جهود أميركية لحل القضية الفلسطينية، بما في ذلك أنباء عودة رايس قريبا لعقد اجتماع بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس وزراء «إسرائيل» أيهود أولمرت إنما يدخل في نطاق تهدئة الخواطر العربية مؤقتا، بشرط أن تركز الجهود العربية على العراق وإيران، وتحسين الموقف الأميركي المأزوم فيهما. هكذا نفهم الموقف، وهكذا فهمنا التسارع العربي في التأييد العلني الكامل لاستراتيجية بوش، وهكذا ندعي أن هذا التأييد غير المشروط، سينعكس سلبيا على كل الأوضاع والأزمات، من أزمة العراق إلى أزمة إيران، ومن أزمة فلسطين إلى أزمة لبنان، ومن أزمة الصومال إلى أزمة السودان!.
ولقد قلنا في مقال سابق إننا نرصد في الأفق سيناريوهين للصراع الدائر الآن، حول العراق وإيران المرتبطين لأسباب واضحة، سيناريو التصعيدين السياسي والعسكري في العراق من ناحية، وضد إيران من ناحية أخرى، وسيناريو التهدئة وصولا للوفاق بين أميركا وإيران لاقتسام أرباح التهدئة وأولها المصالح العربية.
اليوم نتناول سيناريو التصعيد، الذي نراه الأرجح في ظل ما يجري على الساحة، ونستطيع أن نرصد الدلائل والمؤشرات الآتية:
- ترجح المصادر العسكرية والمخابراتية الروسية والأميركية على السواء، أن تشن أميركا ومعها «إسرائيل» حتما، ضربة ساحقة ضد المواقع والمنشآت النووية الإيرانية في الربيع المقبل، ما بين ابريل/ نيسان ويونيو/ حزيران 2007، طبقا لما هو منشور فعلا عالميا هذه الأيام.
- تتعمد الولايات المتحدة هذه الأيام أيضا زيادة الحشد العسكري في المنطقة، وخصوصا في الخليج العربي والمحيط الهندي، بما في ذلك أولا إرسال حاملة طائرات ثانية إلى الخليج، وثانيا زيادة القوات الأميركية في العراق بنحو 20 ألف جندي إضافي، في إطار استراتيجية بوش، لكي تصل القوة الأميركية المقاتلة إلى المعدل الذي كانت عليه، عند بدء غزو العراق في العام 2003.
- وفي المقابل ترفع إيران من استعداداتها العسكرية، وتزيد صفقاتها من الأسلحة المتقدمة وأحدثها صفقة الصواريخ الروسية المتطورة، التي أعلنت عنها موسكو قبل أيام، وكذلك تزيد من تدخلها في العراق، عبر حلفائها هناك، بحثا عن مزيد من استنزاف القدرات العسكرية الأميركية.
وبينما تحاول بعض الدول الأوروبية تخفيف حدة الاحتقان الظاهر، مثلما فعلت فرنسا حين أعلنت ايفاد مبعوث كبير إلى طهران، فإن الولايات المتحدة تزيد هي الأخرى حشدها للجهود السياسية ضد إيران، بإثارة مشاعر الخوف وخصوصا من قوة إيران العسكرية وأطماعها السياسية في الهيمنة على المنطقة، كما فعلت من خلال جولة رايس الأخيرة ونجحت في الحصول على التأييد واستعدادات الحشد المطلوب.
والحقيقة الواضحة أن الولايات المتحدة قد بدأت هجوما سياسيا ودبلوماسيا ونفسيا على الدول العربية، ترافق مع التصعيد العسكري، بدأ بجولة رايس الأخيرة وتبعتها جولة وزير الدفاع روبرت غيتس، مرورا بعشرات المبعوثين الجوالين الآخرين، لتعبئة المواقف العربية الحليفة والصديقة، ولكسر حدة الجموح الإيراني الذي يعبر عنه الرئيس أحمدي نجاد من خلال تصريحاته الكلامية الملتهبة ضد أميركا و»إسرائيل» من دون أن تحقق رسائله الهادئة إلى الدول العربية المجاورة، التطمينات اللازمة.
ولذلك فإن الطرفين الأميركي والإيراني يتسابقان هذه الأيام على استقطاب الدول العربية الفاعلة، وعلى الإيحاء لها بأن سلامتها واستقرارها السياسي والأمني يتوقف على الانحياز هنا وعدم الانحياز هناك. والخطورة في الأمر أن الطرفين كما نتصور لم ينجحا عمليا في تقديم المساعدة الحقيقية للدول العربية, قبل أن يطلبا مساعدتها أولا، ونعني أن إيران بسياستها الجديدة «والثورية» في ظل الرئيس نجاد لم تنجح في تهدئة المخاوف العربية القديمة والجديدة من نتائج هذه الثورية، وانعكاسها على المصالح الحيوية العربية، بما في ذلك حل مشكلة الجزر العربية الثلاث التابعة لدولة الإمارات التي مازالت تحت الاحتلال الإيراني منذ عقود.
وفي الوقت نفسه، لم تنجح السياسة الأميركية في الاستجابة للمطالب العربية الملحة، بضرورة حل الصراع العربي الإسرائيلي وتسوية القضية الفلسطينية تسوية عادلة بل إنها اندفعت بعنف في تأييد الاحتلال الإسرائيلي مثلما اندفعت بعنف أشد في غزو العراق واحتلاله وتدميره والاستمرار المتصاعد في قتل أبنائه.
ولذلك كان حريا بالدول العربية التي قدمت «شيكا على بياض» لأميركا وانحازت علانية لاستراتيجية بوش الجديدة، أن تتريث وتفكر بعمق، ليس فقط في تأييد أميركا وبالتالي معاداة إيران ولكن أساسا في مصالحها القومية الحيوية في الحاضر والمستقبل ابتداء من قضية فلسطين وانتهاء بحماية النفط والمواقع الاستراتيجية ومدى تأثير الأميركي الإيراني سياسيا وعسكريا واقتصاديا على أوضاعها هي، وهي كما نعلم أوضاع هشة بكل المقاييس!
والتريث المقصود هنا لا يعني معادات أميركا لصالح إيران ولا محاباة أميركا ضد إيران ولكن يعني حساب المكسب والخسارة من جراء هذا الصراع وخصوصا نحن ندرك أن انفجار سيناريو التصعيد العسكري الأميركي وصولا لضرب إيران سيحيل المنطقة وتحديدا منطقة الخليج إلى جحيم مستعر، ندفع ثمنه من حياة شعوبنا وثروتها ونفطها ومنجزاتها التنموية والإعمارية كما أن الوصول إلى سيناريو التهدئة والاتفاق بين إيران وأميركا سيكون على حسابنا.
ولأننا في الحالين قد نخسر كما خسر العراق، فإن حسابات المصالح والأهداف وآثار الخسائر والدمار المحتملة يجب أن تدفعنا إلى منطقة التوازن الذي يتطلب حسابات أكثر دقة ومنطقية لا أن تدفعنا إلى الانحياز المطلق والعلني لهذا الطرف أو ذاك. نعرف أن هذا منطق لا يقبله كثيرون في الحكومات العربية المعنية، وخصوصا المتآمركين العرب بحجة أن أميركا هي الأقوى، وأن الدخول تحت مظلتها العسكرية، والاحتماء بدعمها السياسي، يكفل النجاة من المخاطر الجسيمة. وأن لعبة التوازن لم تعد صالحة في هذا العصر الذي يؤكد فيه الرئيس بوش مبدأه الشهير «من ليس معي فهو ضدنا».
لكننا نعرف كذلك أن أميركا القوة العظمى الإمراطورية، لا تفكر فينا وفي حماية مصالحنا بهذا الشكل والتخيل، بل هي تفكر فقط في حماية مصالحها الاستراتيجية، ولذلك تجند الحلفاء وتدفع الأصدقاء للاصطفاف علنا وبحسم، في طابورها العسكري الهاجم.
ثم بعد أن تنتهي المواجهة ويهدأ الصراع، تبدأ في تصفية الحلفاء ومحاسبة الأصدقاء وتدفع رؤوسهم إما إلى الانزواء، وإما إلى الإعدام، كما فعلت من قبل، وكما تفعل الامبرطوريات الاستعمارية دائما، بحجة التغيير الضروري والتطوير الديموقراطي.
لقد شنقت بالأمس صدام حسين، وكان رئيسا حليفا لسنوات طوال... ثم!
خير الكلام: يقول ابن عربي:
قد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1601 - الثلثاء 23 يناير 2007م الموافق 04 محرم 1428هـ