العدد 1601 - الثلثاء 23 يناير 2007م الموافق 04 محرم 1428هـ

لبنان على طريق الانهيار

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل قررت القوى السياسية اللبنانية عبور «الحاجز النفسي» والدخول في مغامرة أهلية مدمرة؟ حتى الآن تبدو التصريحات الكلامية تدفع باتجاه المحافظة على السلم الأهلي وقطع دابر الفتنة المذهبية ومنع التجاذبات من الانهيار وصولا إلى الاقتتال الطائفي. فالكل كما يبدو غير راغب في تكرار تجربة العام 1975. والكل يعلم مقدار الخطر الذي يتهدد لبنان ومنطقة المشرق العربي في حال تدحرج هذا البلد الصغير والجميل إلى سياسة المحاور الإقليمية والدولية. فالخطر كبير فعلا وأوسع بكثير من تلك التجربة القاسية التي مرت بها بلاد الأرز في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

الحرب الأهلية - الإقليمية الأولى كانت محاصرة في لبنان لأنها ارتدت ذاك الشكل الطائفي الذي تمثل في الانقسام العمودي بين المسلمين والمسيحيين. المسلمون آنذاك كانوا تقريبا وفي غالبيتهم العظمى في جبهة سياسية واحدة مدعومة من القوى والفصائل الفلسطينية. المسيحيون أيضا كانوا آنذاك موحدين في غالبيتهم العظمى في جبهة سياسية عامة دعمتها دمشق بداية ثم اختلفت معهم لاحقا بعد دخول القوات السورية واختلاف قواعد اللعبة الإقليمية بسبب إقدام الرئيس المصري السابق أنور السادات على زيارة «إسرائيل» وتوقيع معاهدة «كامب ديفيد» معها.

الآن المسألة مختلفة وأخطر من السابق. فالنفخ في أتون الحرب الأهلية - الإقليمية يأتي في سياق مشروع أميركي كبير يمتد من العراق إلى لبنان. والانقسام المسلم - المسيحي الذي سيطر على الحرب الأولى غير موجود بتلك القوة. إلا أن الموجود الآن أخطر فهو يتشكل في إطار مذهبي يوزع المسلمين إلى جبهتين. وهذا يعني أن الحرب الثانية في حال اندلعت فستكون لها امتداداتها الإقليمية ولن تكون محاصرة كما كانت حال لبنان في مطلع حرب 1975. فالظروف المحلية تغيرت وقواعد اللعبة الإقليمية تبدلت والمشروع الأميركي في طبعته الجديدة يحمل سمات استراتيجية تعتمد فكرة تقويض دول المشرق العربي وإعادة رسم حدودها ضمن إطار كونفيدراليات الطوائف والمذاهب بهدف حماية أمن «إسرائيل» وتأمين آبار النفط وخطوط الإمداد.

البعد الإقليمي - الدولي يشكل نقطة مهمة لفهم ما يجري في لبنان ويساعد على قراءة تلك التعقيدات التي تظهر في تفصيلات المشهد العراقي وخلفياته. وهذا البعد الذي تصر القوى السياسية على استبعاده من المشهد اللبناني يزيد من خطورة الوضع المتأزم أهليا. فالكلام النظري الذي دأب قادة مختلف التيارات السياسية اللبنانية على ترداده وتكراره لا يجدي نفعا في بلد تتحكم فيه آليات الطوائف والمذاهب في رسم المواقف والقناعات ووجهات النظر. فالسياسة في لبنان طائفية ومذهبية ومناطقية في جوهرها حتى لو ظهرت على السطح شخصيات معينة تبدي آراء اعتراضية مضادة أو تعلن تأييدها لهذا الطرف من طائفة أخرى أو اختلافها مع هذا الطرف من مذهب آخر. هذا التلوين السياسي لمواقف الطوائف والمذاهب لا يلغي القانون الأساسي الذي تتحكم به آليات الواقع.

المشكلات في لبنان ستتحول عاجلا أم آجلا إلى مشروع فتنة طائفية/ مذهبية مهما حاولت القوى السياسية تلطيف الأجواء وتزيينها بالمطالب النقابية والاقتصادية والمعيشية. فالكل يدرك أن الفتنة حين تكبر وتنمو في الأحشاء ستنفجر وستذهب في عنفها تلك الاتجاهات التي تفكر بواقعية وعقلانية وتقرأ بموضوعية الأهداف الأميركية - الإسرائيلية من وراء استراتيجية تقويض دول المشرق العربي. فهذه الأهداف نجحت الولايات المتحدة في موضعتها على الأرض بعد احتلال العراق منذ نحو أربع سنوات. وهذا ما حاولته تل أبيب خلال عدوانها على لبنان حين لجأت إلى سياسة تقويض الدولة (الضعيفة والمشلولة أصلا) وتقطيع أوصال بلاد الأرز وإخراج المشروع العربي من المعادلة وترك الأمور تسير وفق منهجية قد تكون مبرمجة لافتعال التصادم بين القوى الأهلية على الأرض.

الحاجز النفسي

حتى أمس تبدو القوى السياسية اللبنانية واعية لخطورة هذا الأمر لذلك تظهر علنا أنها ترفض عبور ذاك «الحاجز النفسي» والدخول في مغامرة أهلية مدمرة. ولكن «الحاجز النفسي» محدود التأثير وقصير النفس ويمكن التحكم به في بدايات التحرك إلا أنه سينهار حين تجد القوى السياسية نفسها محاصرة في الشوارع والأحياء والأزقة والضغوط الشعبية التي تعاني من الاحتقان. وهذا ما بدأ يظهر على شاشات التلفزة والفضائيات اللبنانية في يوم الإضراب الكبير أو العصيان المدني. ومن يراقب لغة الخطاب السياسي وأساليب التخاطب لا يحتاج إلى «عبقرية» لملاحظة ذاك التشنج المذهبي والطائفي في تغطية الحدث.

حتى الإضراب الكبير تشتت وتوزع طائفيا ومذهبيا ومناطقيا وتحول في بعض الأحياء والشوارع إلى نوع من التحديات والاستفزازات. فالمناطق التي يسيطر عليها حزب الله وحركة أمل شهدت سلميا الإقفال التام والكامل. بينما المناطق التي يسيطر عليها حزب «المردة» وتيار الجنرال وتلك المجموعات الصغيرة والضعيفة اضطرت إلى استخدام القوة وحرق الإطارات وقطع الطرقات لمنع الناس من التحرك والذهاب إلى أعمالهم.

مقابل هذا الجزء من يوم الإضراب الكبير نجد أن الجزء الآخر رفض التجاوب أو التحرك وكأن الناس تعيش في كوكب مضاد. فالمناطق التي يسيطر عليها تيار «المستقبل» شهدت سلما حركة عمل وازدحام الشوارع بالسيارات، إضافة إلى فتح المحلات التجارية أبوابها. كذلك شهدت المناطق التي تسيطر عليها أحزاب التقدمي الاشتراكي والكتائب والقوات اللبنانية وتجمع نواب «قرنة شهوان» أنشطة تجارية وحركة تسوق وذهاب إلى العمل في المؤسسات والمصارف والمعامل.

الانقسام واضح ولا يحتاج إلى شرح وتفسير. وهذا يدل على وجود مؤشرات سلبية تتحكم بالمشاعر والمصالح ويرجح في حال تدهورها أن تنتج سياسة تدين بالولاء للطائفية والمذهبية. وهذا بالضبط ما تريده «إسرائيل» التي خططت بالتعاون مع الولايات المتحدة الى دفع لبنان نحو الاقتتال الداخلي في ضوء تكتيك «الفوضى الهدامة». وتكتيك الفوضى لا ينجح من دون اعتماد استراتيجية تقويض الدولة. فأي بلد لا تتحكم بقوانينه الدولة يتجه بطبيعة الحال إلى الانقسام الأهلي والتوزع العفوي على فيدراليات مناطقية منسجمة في تكوينها الطائفي والمذهبي.

ما يحصل في لبنان ليس بعيدا عن هذه الفضاءات الدولية وتلك السحب السيئة التي أخذت تنتشر فوق المشرق العربي وصولا إلى بلاد الأرز المعروفة بحساسيتها ودقة تأثرها بالمحيط الإقليمي.

المخيف في الموضوع أن القوى السياسية اللبنانية على اختلاف أنواعها وألوانها لا تدرك (أو تدرك) خطورة هذه المسألة. وبغض النظر عن النوايا الطيبة فإن المؤشرات أخذت تدفع التعارض إلى تناقض، والتناقض إلى انهيار. وحين يحصل الانهيار فإن كل محاولات رأب الصدع ستصاب بالفشل كما هي حال العراق الآن.

هذا جانب من الموضوع السياسي. أما الجانب الاقتصادي من الموضوع فهو أسوأ. فالحال اللبنانية (المنقسمة مذهبيا وطائفيا) منتشرة في كل المؤسسات الإنتاجية والتجارية والمصرفية والخدمية وهذا سيعرضها إلى الانشطار إذا استمر التجاذب الأهلي. إلا أن الأسوأ في المشهد اللبناني هو موضوع المؤسسة العسكرية. فهذه الهيئة هي وحدة مصغرة عن الفسيفساء أو الكوكتيل الطائفي والمذهبي. وبسبب تركيب هذه المؤسسة الحساس فهي غير قادرة على القيام بمهماتها التقليدية الداخلية، وقدرتها على التدخل لوقف هذا الفريق أو ذاك محدودة خوفا من أن تتعرض للانشطار الأهلي وهدر تلك المليارات التي أنفقت عليها لترميمها وإعادة دورها الوطني. وبسبب الخوف على المؤسسة العسكرية من الانهيار والتفكك وحرصا على وحدتها يرجح أن تضطر إلى الوقوف على الحياد. وحين تتوقف أعلى هيئة أمنية عن ممارسة دورها في حماية الممتلكات العامة والخاصة أو الدفاع عن مرافق الدولة (المطار، المرفأ، محطات الكهرباء وغيرها) فمعنى ذلك أنها فتحت الطريق أمام الناس من كل الطوائف والمذاهب للدخول على خط الدفاع والحماية. وهنا بالضبط تبدأ الخطوة الأولى على طريق الانفجار الذي سيدخل لبنان في مغامرة أهلية مدمرة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1601 - الثلثاء 23 يناير 2007م الموافق 04 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً