تلعب العاطفة دورا كبيرا في تخليد الآثار الأدبية وإسباغ هالةٍ من الحب والتعاطف عليها. وكثيرٌ من الأدباء في العالم استطاعوا أن يتجاوزوا المحلية إلى العالمية بالعزف على هذا الوتر الذي يجذب القلوب. فالعاطفة هي الصنو الآخر للفروسية في تخليد الأعمال الأدبية. ويمكنك أن تستذكر روائع الأدب العالمي، من شكسبير إلى سيرفانتس وهوغو وديكنز وديستوفسكي وتولستوي وماركيز... فالعاطفة هي صنو الفروسية والنبل في تخليد الأدب العالمي. وفي واقعةٍ تاريخيةٍ مثل كربلاء، حيث تتصاعد المأساة حتى تبلغ قمة التراجيديا، تتوافر كل عوامل التعاطف والنبل والفروسية والإباء. وهي قيمٌ إنسانية من الطراز الأول، ومن الخطأ أن يحصرها المسلمون في هذا الطور من الانحطاط التاريخي - في بعض طوائفهم - كأنّ عاشوراء ماركةٌ مسجّلةٌ على بعضهم من دون البعض الآخر. والأدهى أن تتحوّل عملية إحياء هذه الحادثة التاريخية التي هزّت الوجدان الإسلامي عبر القرون... إلى مجال للتنابذ والتفرّق وتعميق سوء الفهم، وتوزيع الاتّهامات بالشرك والكفر في هذا الزمن طائفي النزعة والتفكير. من الناحية التاريخية، حرص أئمة البيت النبوي الشريف، على إحياء هذه الواقعة؛ لأن الإمام الحسين (ع) لم يخرج أشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا، وإنما خرج لطلب الإصلاح في أمّة جده محمد (ص). ومع وضوح هذه المسألة إلاّ أن كثيرين انتقدوه في حركته الإصلاحية، واتهموه بالخروج على دين جده. ومازالت تلك الدعاوى تلقى رواجا في سوق الأفكار الهابطة، التي لم ترتقِ إلى مستوى الحدث أو فهم رسالة الإسلام الكبرى. كربلاء كحادثة تاريخية، واجهت الكثير من التعتيم في زمنها، بالإضافة إلى التشكيك في مقاصد الثائر البطل، وفي مواجهة هذا المدّ التشكيكي، والتعتيم الإعلامي، لجأ أئمة البيت النبوي إلى الدعوة إلى إحياء هذه الواقعة لتبقى قيم الإسلام حية في القلوب. فليس هناك مكانٌ أكثر صونا وحماية وحفظا للقيم والمبادئ والرسالات أفضل من دفء القلوب. من هنا كان الأئمة يحرصون على استقبال الشعراء وحثّهم على إنشاد الشعر في شهداء كربلاء. وينقل إلينا التاريخ صورا من تلك المجالس حيث تضرب الأستار للنساء، ويقوم الشاعر فينشد مرثيّاته التي يضج منها أهل النبي (ص) بكاء على شهداء الطفوف. قد يقال الكثير عن فلسفة البكاء في عاشوراء، وخصوصا في هذا العصر الإلكتروني متسارع الخطى، وتصدر الكثير من الدعوات إلى التجديد في وسائل إحياء ذكرى عاشوراء، في زمنٍ يعتمد أكثر وأكثر على ثقافة الصورة، والمخاطبة البصرية المباشرة، إلاّ أن التحدي الأكبر لهذه الطروحات «العصرية»، سيظل في صيغة الدفاع التالي: لقد حفظت شلالات الدموع عبر الأجيال رسالة كربلاء، حية ملتهبة في الصدور، حتى وصلت إلى هذا الجيل «الإلكتروني»، فهل سيمكنكم أن توصلوها إلى الجيل القادم، فضلا عن الأجيال التالية؟ إحياء عاشوراء بالصورة التي نعاصرها، إنما هو نتاج تراكم خبرات واجتهادات وممارسات للأجيال السابقة، وفي الوقت الذي يتعرض له هذا الموروث لنقدٍ وتمحيصٍ ومراجعةٍ واسعةٍ، يشارك فيها عالم الدين والمثقف والمفكر والفيلسوف، فضلا عن رجل الشارع الذي يفتح عينيه على واقع الشعوب الأخرى، في فضاء الإنترنت المفتوح، فإن التحدي الذي سيظل أمام الجميع: كيف يمكنكم إيصال رسالة كربلاء، ليس إلى أطفالكم فقط، ولا إلى الآخر في البيت الإسلامي الواسع، ولكن إلى الإنسانية التي تتعطش لنماذج تجمع بين الفروسية والتضحية والنبل الرفيع.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1600 - الإثنين 22 يناير 2007م الموافق 03 محرم 1428هـ